ينساب إلى فؤادك كتاب "سيرة ومسيرة معالي الشيخ عبدالله بن عمر بلخير" لمؤلفه المهندس سلطان بن يعرب بن عبدالله بلخير (حفيد المترجم له) دون أن تشعر بسأم أو ملل، فهو نفحة من جمال صاغتها حياة رجل كان عماداً مهماً في بناء ونهضة هذه البلاد (المملكة العربية السعودية) حيث عملت هذه الشخصية في أكثر من موقع وأبرز من مجال، فهو السياسي المحنك والإعلامي اللامع والأديب المصقع والشاعر المفلق والرحالة المهجوس بحضارة أمته، وهذه الأدوار الرئيسة التي لعبها الشيخ بلخير والتي أتقنها خير إتقان، وأجادها أحسن إجادة، أكسبته (كارزما) خاصة بين مجايليه حتى غدت شخصية بلخير شخصية أقرب إلى الشخصية المتفق على محبتها وتقديرها مِنْ خلال مَنْ عرفه أو عمل معه في كل المواقع. استطاع معالي الشيخ عبدالله بلخير أن يَشْرُف بالعمل مع موحد المملكة الملك عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله- منذ أن كان يستمع إلى الأخبار السياسية التي تبثها محطات الإذاعات العالمية من قضايا سياسية وأخبار حربية وآراء اقتصادية، وما لبث أن صار مترجماً للملك الموحد يترجم له ما يدور بينه وبين كوكبة من الزعامات العالمية المهمة التي لعبت دوراً كبيراً في تلك الحقبة كالرئيس الأمريكي روز فيلت ورئيس الوزراء البريطاني تشرشيل وغيرهما من أقطاب السياسة والدبلوماسية في العالم، وبذلك يكون خير شاهد على سياستنا الخارجية الملتزمة ومواقفنا الواضحة، إبان الحرب العالمية الثانية، إلى جانب جولاته مع الأميرين فيصل وخالد (الملكان فيما بعد) -رحمهما الله- عام (1943م) إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية ومقابلتهما لعدد من القيادات الأمريكية من دبلوماسية وعسكرية واقتصادية وهي أول مهمة خارجية يقوم بها بلخير. كما اختير رئيساً لديوان إمارة الرياض في عهد أميرها الأمير سلطان بن عبدالعزيز -رحمه الله - وحين جاء الملك سعود بن عبدالعزيز -رحمه الله- رأى في بلخير بقدراته وخبراته خير من يقوم باستلام الإدارة الإعلامية الجديدة التي تحمل اسم (المديرية العامة للإعلام والصحافة والنشر) فأظهر بلاءً حسناً وصورة مشرقة عبر تحريك الآلة الإعلامية نحو الأفضل، إلى جانب جولاته التي يبرز فيها الدور السعودي الواضح تجاه جملة من القضايا العربية والإسلامية والعالمية، حيث كان يعقد المؤتمرات الصحفية أثناء زيارات الملك سعود الدولية في كل من: الهندوالولاياتالمتحدة الأميركية وإندونيسيا ودوره البارز إبان قضية البريمي حيث اجتمع مع صفوة من الشخصيات الإعلامية المرموقة في الوطن العربي، مؤكداً أن منطقة البريمي جزءاً مهماً من الأراضي السعودية والتي لا يمكن أن يقتطع عن سيادة المملكة، كما يحسب للشيخ عبدالله بلخير دوره الثقافي والصحفي في إصدار مجلة الإذاعة عام (1375ه) التي مكنت للعديد من الأقلام الثقافية نشر نتاجهم الإبداعي، فما كان من الملك سعود إلا أن استوزره وحمَّله حقيبة جديدة عرفت ب(وزير الدولة لشؤون الإذاعة والصحافة والنشر). ظل الشيخ بلخير -على مدى هذه السنوات الطوال- محباً لوطنه مخلصاً لعمله، متنقلاً في كل ما يسند إليه من نجاح إلى نجاح محققاً ما كان يصبو إليه من تقدم ورفعة لبلاده. وهناك جانب أكثر إشراقاً وملمحاً أجمل حضوراً خص به المؤلف سيرة الشيخ عبدالله بلخير، ألا وهي صورة عبدالله بلخير المثقف الموسوعي والشاعر الكبير صاحب الأناشيد الوطنية التي جرت على ألسنة الطلاب في مدارس الفلاح التي تخرج فيها وبقية مدارس المملكة التي ردد طلابها قوافيه وصاحب الملاحم الشعرية البديعة التي قَطّر فيها من المعاني كل ما كان يعتلج في صدره، إلى جانب روائع شعرية أخرى هي أدعى إلى الإعجاب والافتخار. أراد له والده الشيخ عمر بلخير ولأخيه حسين أن يصبحا مدرسين في الحرم المكي وشاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن يكون شاعراً فذاً ينظم قصائد ذات ألوان منها الوطنية التي تشحذ همم الشباب ومنها الإسلامية التي تتغنى بأمجاد أمته. اختلف الغلام عبدالله بلخير (1333 - 1423ه) إلى مدرسة الشيخ محمد أمين الماحي الابتدائية الكائنة بمحلة الشبيكة فغرست فيه حب العلم فحفظ القرآن الكريم وهو في سن العاشرة من عمره لأن حفظ كتاب الله أمر مُبجل وضروري عند أسرة آل بلخير فهناك مقولة متداولة بين أفراد هذه الأسرة وهي: أن الذي لا يحفظ القرآن الكريم، لا ينتسب لآل بلخير. من حلقات الحرم المكي إلى الجامعة الأمريكية لم يقف الفتى عبدالله عند حفظه للقرآن بل نال قسطاً من علم الحساب وشيئاً من علم النحو وتوسع في دراسة العلوم الدينية، فأظهر عبدالله بلخير نجابة في كل الدروس التي ألم بها فما كان من شيخه الماحي إلا أن يختاره لإمامة الناس في صلاة التراويح في أحد مساجد الحي، اتجه الشاب عبدالله بلخير للاستزادة من شيوخ الحلقات العلمية في المسجد الحرام وآلى على نفسه أن يُعْمِر عقله وقلبه من هذه الحلقات فأخذ من الشيخ سعيد يماني الفقه الشافعي وأخذ من الشيخ عمر حمدان المحرسي علم الحديث من كتب الصحاح وتردد كثيراً على حلقات السيد محمد أمين كتبي التي كانت في اللغة العربية، ثم حَسّن له صيت مدرسة الفلاح في تلك المرحلة أن يكون أحد طلابها وكان من أساتذتها المبرزين السيد علوي مالكي الذي أخذ بيد تلميذه نحو التميز في علم النحو وأمضى معه سبع سنوات لازمه فيها في المدرسة وفي حلقات المسجد الحرام والمناسبات الدينية فلعب بلخير دور المريد مع شيخه المالكي بامتياز يحمل أوراق شيخه وكتبه بل يأخذ له سجادته إلى حلقته، وفي تلك الأثناء وهو لا يزال على مقاعد الدرس في مدرسة الفلاح قررت إدارة المدرسة تدريس اللغة الإنجليزية لطلابها فجاءت بمعلم من مسلمي الهند وألزموا الطلاب بحضور دروس اللغة الإنجليزية، لم يستسغ الشاب عبدالله هذه اللغة ورأى أنها حجرة عثر لمستقبله، فما كان منه إلا أن أسر لبعض زملائه مقاطعة دروس اللغة الإنجليزية لأنها لغة المستعمر وأن الإنجليز هم الذي قطعوا على أنفسهم أن يعطوا اليهود فلسطين ناهيك أن الإنجليز قد استعمروا عدداً من الأقطار العربية والإسلامية، لذلك كان من حق كل مسلم أن يقاطع هذه اللغة، فوافقه عدد قليل من زملاء فصله واتفقوا على أن يخرجوا من الفصل حينما يلجه أستاذ اللغة الإنجليزية وظل هو وزملاؤه في موقف الإصرار على الرفض حتى أعفتهم المدرسة من حضور دروس هذه اللغة ومن دواعي الغرابة والتعجب أن هذه اللغة الإنجليزية التي كان الشاب عبدالله بلخير من الرافضين لتعليمها والداعين لمنعها في مدرسة الفلاح بل ومحاربتها، كانت مفتاح تحولات كثيرة في تاريخ حياته فيما بعد، بل كانت عاملاً من عوامل نجاحه في حياته العملية، فكأن عصاً سحرية مسته. أعود لأقول إن عبدالله بلخير كان إلى جانب طموحه الكبير ورغبته الواضحة في طلب العلم محاطاً ببيئة علمية خصبة فقد كان حاضراً طوال أوقات فراغة عند مكتبات باب السلام يتردد عليها ويغشها وينتقى منها ما لذ وطاب من كتب النحو والأدب والتراجم والحديث والتفاسير فعبَّ من معين باب السلام الذي كان معرضاً دائماً للكتاب ضف إلى ذلك تعرفه على كوكبة من الأدباء الرواد الذين زامل بعضهم فكانت بينهم المطارحات الشعرية والمناقشات الأدبية. أما شرارة الشعر عند بلخير فقد انبثقت من إعلان إدارة المعارف عن مسابقة شعرية للترحيب باستقبال بعثة الكشافة العراقية الذين يزورون الحجاز لأداء فريضة الحج والعمرة، فما كان منه إلا استعد للقريض واحتشد لصيد القوافي وأرسل للجنة التحكيم هذا النشيد: شبه الجزيرة موطني وبلادي من حضرموت إلى حمى بغدادِ أشدو بذكراها وأهتف باسمها في كل جمع حافل أو نادي منها خلقت... وفي سبيل حياتها سعيي.. وفي إسعادها إسعادي كل له في من أحب صبابة وصبابتي في أمتي وبلادي يا مرحبا ببني العراق ومن بهم يعتز كل موحد بالضادِ أبناء بغداد الشقيقة مرحباً من كل قلب نابض وفؤادِ وكانت القصيدة في قرابة أربعين بيتاً تحمل بين طياتها عشقه لوطنه العربي الكبير، وتضم مضامين فنية وإبداعية وما هي إلا بضعة أسابيع حتى فوجئ بالشاعر الأستاذ عبدالوهاب آشي رئيس تحرير صوت الحجاز يهنأه بفوز نشيده في المسابقة، بل اختيرت لتعمم على جميع المدارس. لم يكن هذا الفوز للشاعر الشاب عبدالله بلخير إلا محفزاً له لتقديم عدد من الأناشيد تفوح عطراً وحماسة ورفعها لمجلس الشورى حتى يسلمها بدوره إلى مديرية المعارف، وما كان لهذه الأناشيد إلا أن تقع في يد أحد أعضاء المجلس وهو الشاعر الكبير أحمد إبراهيم الغزاوي فأقّر أغلبها وحكم عليها بالنضج الفني، فتولت مديرية المعارف طبعها وتعميمها على مدارس المملكة، بل جاءه بسببها خطاب من نائب الملك في الحجاز الأمير فيصل بن عبدالعزيز مشفوعاً بمبلغ مالي قدره خمسون ريالاً لهذا التلميذ النجيب وعرف بين أقرانه حينذاك بشاعر الشباب لاسيما بين طلاب مدرسة الفلاح التي تخرج فيها بتفوق كبير عام (1353ه - 1933م) مما دعا إدارة المدرسة إلى ابتكار شهادة جديدة عرفت بشهادة العبقرية لحصوله على المركز الأول ولكونه شاعر المدرسة فخطت الشهادة بماء الذهب كتبها شيخ الخطاطين في مكة يومئذ الشيخ سليمان بن فرج غزاوي وممهورة بتواقيع رئيس المدرس ومديرها فكان أول من حصل عليها على أن تمنح بعد ذلك تباعاً للعباقرة من خريجي الفلاح، إلا أنها لم تمنح لأحد بعده فكان بها الأول والأخير، وفور تخرجه من مدرسة الفلاح عمل في حقل التعليم بالحرم المكي الشريف، ليحقق شيئاً من أمنية أبيه، فالتف حوله الطلاب في حلقته يقدم لهم الدروس الدينية ويكمل لهم ما ابتدأه شيخة السيد علوي مالكي في دروسه الفقهية. لم تفت شاعرنا المكي بلخير فرصة المشاركة في الاحتفال الكبير الذي أقامته أمانة العاصمة المقدسة في جرول ابتهاجاً بعودة الملك عبدالعزيز من الرياض فأنشأ يدبج لاميته الشهيرة التي نافت عن الثلاثين بيتاً وبرز أمام الحضور وألقاها بحماس فقوبلت باستحسان الحضور ومنها هذا المطلع البارع: يا حَمَام الحِمَى تَغَنَّ بِشِعْري في رُبى الَروْضِ بُكْرَة وأَصِيلا وتَرَفَّقْ بِمُغرم هَاجَه الوَجْدُ وأمْسَى مِن الغَرَام عَليلا واتّخِذْ مِنْبراً فَنَن الدوْح وغرِّدْ بَين الزّهور قَليلاً وارْفَع الصَوْت حِينَ تَسْجَعُ حَتى يَرِد الصَّوتُ دِجْلَة والنِيلا ومضى بلخير يلقي باقي القصيدة بيتاً إثر بيت فكانت هذه القصيدة له مفتاح الوصول إلى منابر الشهرة ومراقى عالم الابتعاث للخارج لينهل من علوم جديدة ومعارف لم يقف عليها في عالمه المكي المحدود، ذلك أن القصيدة رن صداها في الحفل وأطربت الملك عبدالعزيز ونالت إعجابه، فما كان من الملك المؤسس إلا أن يأمر بابتعاثه للدراسة في بيروت وينضم إلى الجامعة الأمريكية مع ثلة من الطلاب السعوديين، فهبط جدة ليركب البحر نحو السويس ومنها -بالقطار- إلى حيفا ثم إلى بيروت. وللبنان عالم خاص من الأدباء والكتاب والشعراء والصحافيين الذين تتردد أسماؤهم في المحافل الثقافية، لذلك كانت بيروت بالنسبة لشاعرنا بلخير محطة هامة في حياته الثقافية فامتدت أواصر الصداقة بينه وبين طائفة من أساطين الفكر والأدب وعقد صلات وطيدة مع جمهرة منهم وكان من أبرزهم الدكاترة شارل مالك، وجبرائيل جبور وأنيس المقدسي وقسطنطين زريق والأخير حَسَّنَ له الانضمام إلى جمعية العروة الوثقي التي كانت تدعو للقومية العربية، فأنضم بلخير في صفوفها يلتمس فيها مزيداً من تنمية عقيدته القومية ووجد فيها مجالاً خصباً للأفكار التي راجت في تلك المرحلة، ومن بيروت دفعه الشوق لزيارة بعض من أقطار العروبة فمال إلى الشام وزار صحيفة الأيام فيها وقابل صاحبها الأستاذ نصوح بابيل والتقى بالأديب الكبير الأستاذ محمد كرد علي وذهب إلى مصر ليهدي كتابه "وحي الصحراء" الذي شاركه فيه الأستاذ محمد سعيد خوجة فقابل عدداً من الأدباء الكبار منهم الدكتور أحمد لطفي السيد والدكتور محمد حسين هيكل، كما لبى دعوة وزارة المعارف العراقية فزار بغداد وتعرف على نادي المثنى القومي ومدرسة الكاظمية، وكانت مفاجأة جميلة حين رأى صديقة المكي السيد علي فدعق الذي كان طالباً في كلية الكاظمية وتَأَتَى له التعرف على الوزير المفوض في القنصلية السعودية السيد حمزة غوث وقد سبق لبلخير أن سمع باسمه كونه أحد رجالات الملك عبدالعزيز، وفي المقابل عرفه السيد غوث لأن شعره الذي ينشره في صحف الحجاز قد قدمه للناس، ودار حديث ودي بينهما، انتهى بوجبة غداء قدمها القنصل السعودي، فكان هذا اللقاء الذي تم بينهما نقطة تحول هامة في حياة الشاب عبدالله بلخير، فمن خلال السيد حمزة غوث كانت بداية صلته بالملك عبدالعزيز الذي أمر غوث بالبحث عن موظف يسجل الأنباء والأخبار من الإذاعات في الشعبة السياسية بديوان جلالته، فما كان القنصل غوث إلا أن يتذكر الشاب الأمين واللبق عبدالله بلخير ويخبر الملك عبدالعزيز عنه، حيث كان بلخير يعمل في ديوان الشيخ عبدالله السليمان وزير المالية، فما كان من الملك المؤسس إلا أن أمر أن يبرق في الحال إلى وزير المالية في الطائف بأن يبعثوا هذا الشاب إلى الرياض وحين ألقى رحاله في العاصمة عُيِّنَ في الوظيفة المذكورة، وبقى مع الملك عبدالعزيز يقوم بكل عمل يناط به وتقلب هذا الشاب في أكثر من منصب حتى نال ثقة الملك سعود الذي استوزره حتى أحيل إلى التقاعد عام (1384ه - 1964م) ليتفرغ بعد ذلك للسفر حول العالم ويقوم برحلات طويلة يطلع على أمجاد أمته وحضارتها العريقة في عدد من عواصمها العتيقة وتحرك في نفسه طبيعة الشاعر فيخرج لنا جمهرة من القصائد والملاحم التي صور فيها روائع الأمجاد التي قدمتها يد الحضارة الإسلامية للعالم، وقد أحسن الجامع والمعد المهندس سلطان بلخير أن ضم أعماله الشعرية الباذخة والتي جاءت في أكثر من (270) صفحة حملت كل تجاربه الشعرية منذ طلائع قصائده في مدرسة الفلاح حتى آخر نص شعري أتحفنا به، وهي تجربة تفوق كثيراً من بعض التجارب الشعرية، كما إنها تغري الطلاب والباحثين لسبر أعماق عالم بلخير الشعري واستكناه مكامن الجمال بين قوافيه. رحم الله شاعر الملاحم الإسلامية الشيخ عبدالله بلخير وعوضنا عنه خيراً. مؤلف الكتاب مع جدّه