كما هو معروف، سواء أدركنا أو مجرد أن ألفنا الأمر، فإن المال كان ولا يزال أبرز الوسائل التي جعلت من تبادل وتداول السلع أمراً ممكناً، بما يحل مشكلات الأزمنة التي لم يكن يعرف قومها وسيلة لذلك سوى مقايضة السلع ببعضها والتي نتج عنها عدم وجود وحدة قياسية لقياس القيمة أو انعدام الرغبة فيما لدى الآخر من سلعة وعبء تخزين السلع لحين مقايضتها مرة أخرى وفسادها مع مرور الزمن وغيرها من المشكلات ذات العلاقة. وبإيجاز مقتضب يتجاهل التفاصيل ويتجاوز بعض المحطات المهمة، فقد شكلت فكرة المال حلاً جذرياً لمعظم مشكلات المقايضة آنفة الذكر، وتطور مفهومها عبر الأزمنة إلى أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم ابتداءً بالعملات النقدية بتعدد أشكالها سواء كانت معدنية أو ورقية وغيرها، مروراً بتطور الأنظمة البنكية وشبكات المراسلات المالية العالمية مثل سويفت (Swift)، وصولاً إلى زمننا هذا الذي شهد أوجه التقدم لأنظمة المدفوعات الرقمية والحلول المالية القائمة على التقنية، متزامناً مع زخم العملات الرقمية المشفرة اللامركزية كالبيتكوين (Bitcoin) وغيره. وفي رأيي، فإن ظاهرة العملات الرقمية المشفرة اللامركزية مصحوبة بتطور أنظمة المدفوعات الرقمية ساهمت بشكل وبآخر في تعزيز الصورة الذهنية لدى مختلف المجتمعات والثقافات بشأن قبول فكرة التخلص من النقد واستبدالها بأصول رقمية مما أوصلنا إلى أعتاب عصر جديد يبزغ فيه فجر العملات الرقمية للبنوك المركزية ويشار إليه اختصاراً (CBDC). بادئ ذي بدء، يمكننا تعريف هذا المفهوم على أنه أصل رقمي تتولى البنوك المركزية مسؤولية إصداره بما يستبدل النقد الملموس بمثيل رقمي له يختلف معه في الشكل ويتفق معه بالقيمة. يمتاز هذا المفهوم المالي الجديد بالعديد من المزايا التي تعد بحل المشكلات المقترنة بالأنظمة المالية التقليدية بما يحسن كفاءة أنظمة المدفوعات والتحويلات أو عمليات المقاصة المحلية والدولية من حيث سرعة إنجاز العمليات وقلة تكلفتها. إضافة إلى ذلك، نظراً لإتخاذ العملات المصدرة شكلاً رقمياً، فإنه بات بالإمكان توافر بيانات لم تكن معهودة سابقاً بما يعزز نظم دعم اتخاذ القرار ويضبط العمليات المرتبطة بهذه الأصول الرقمية مما يساعد في أتمتة تتبع العمليات وتحجيم عمليات الاحتيال والتزوير. على الرغم مما يعد به هذا النظام المالي المبتكر من فرص وحلول لم تكن معهودة سابقاً فإنه لا يخلو من مشكلات وتحديات تحد من تسارع تبنيه واستبدال الأنظمة التقليدية به. ذلك أن شأن هذا المفهوم كشأن أي أمر مستحدث، فلا بد من تجاوز عقبة هاجس الشك إلى حالة اليقين بخصوص الأثر الذي سيحدثه تبني مثل هذا المفهوم على كل الأطراف ذات العلاقة، كلٌ فيما يخصه ويعنيه سواء كانت جهات تشريعية أو تنفيذية أو تقديم خدمات مصرفية، مالية، أو تجارية، وحتى أيضاً لدى المتعاملين من مؤسسات وأفراد. ولذلك شهدنا حتى الآن العديد من المبادرات الدولية التي أخذت على عاتقها خطوات جادة في بحث إمكانية تطبيق هذا المفهوم ودراسة الآثار المتحملة التي تترتب جراء إنفاذه على جميع الأطراف ذات العلاقة، فأمثلة ذلك كثيرة ولا يمكن حصرها في مقالة كهذه، ولكن يمكن تتبع تطوراتها عبر الموقع الإلكتروني. تطور أنظمة المدفوعات بوابة استبدال النقد الملموس جدير بالذكر أن المملكة تعد من الدول السباقة والرائدة في دراسة واختبار هذا المفهوم من خلال مشروع عابر الذي نفذه البنك المركزي السعودي، وشخصياً وربما أكون مخطئاً، أميل للقناعة بأننا نشهد أفول نجم النقد المالي الملموس الذي ظل سيد الحالة لفترة طويلة، بما له من مزايا وما عليه من عيوب، وذلك في ظل شروق شمس العملات الرقمية للبنوك المركزية. * مختص بهندسة حلول البلوكتشين في قطاع الأعمال عضو هيئة تدريس - جامعة أم القرى