صحة الإنسان، مكونٍ رئيس لنماء الدول وازدهارها؛ فمن صحة الإنسان، تبدأ صحة الأسرة، وتتسع لتكون أساسًا لصحة المجتمع، ومنها لصحة الأوطان والأمم. في عام 1948 اجتمعت دول العالم لتأسيس منظمة الصحة العالمية، واتفقت على أهمية تعزيز الصحة والحفاظ على السلامة، من أجل الوصول إلى أعلى مستويات الازدهار والرفاه. وبات هذا اليوم نقطة البداية للعديد من الجهود الدولية في كافة أنحاء العالم لتعزيز مستويات الصحة العامة والحفاظ عليها. ومن هنا بدأ الاحتفاء بيوم تأسيس منظمة الصحة العالمية، واعتباره فرصةً لتجديد الاهتمام العالمي بالصحة، ومنصةً توعوية بالموضوعات والقضايا المتصلة بها. وفي هذا العام، أي بعد 75 عامًا من تأسيس منظمة الصحة العالمية، حددت المنظمة موضوع الاحتفاء بيوم الصحة العالمي ليكون: الصحة للجميع، هذه الرسالة القصيرة، ذات المفهوم الواسع، الذي يتخذ من الصحة لبنةً أساسية لجميع سكان العالم ليعيشوا حياة مُرضية في عالم يسوده السلام والازدهار والاستدامة. "لكي تصبح الصحة للجميع حقيقة واقعة، نحتاج إلى ما يلي: أفراد ومجتمعات محلية تُتاح لهم خدمات صحية عالية الجودة حتى يتسنى لهم الاعتناء بصحتهم وصحة أسرهم؛ وعاملون صحيون مهرة يقدمون رعاية جيدة تركز على الناس؛ وواضعو سياسات ملتزمون بالاستثمار في التغطية الصحية الشاملة". -منظمة الصحة العالمية. والصحة للجميع؛ مفهومٌ تبنته المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها، فقد اهتمت قيادة المملكة العربية السعودية بصحة الإنسان، واستمرت مسيرة الاهتمام بالصحة واعتبارها أولوية قصوى عهدًا بعد عهد، واستمر القطاع الصحي يشهد نموًا مطردًا جيلاً بعد جيل. حتى جاءت رؤية المملكة 2030 في عام 2016م هادفةً نحو تحولٍ وطني شامل، ونهضة تعمُّ كافة القطاعات. بما فيها القطاع الصحي؛ حيث حددت مجموعة من الأهداف المتعلقة بالحفاظ على صحة الإنسان وتحسين جودة الخدمات الصحية المقدمة له من أجل الارتقاء بجودة حياته، وإيمانًا بأن الثروة البشرية هي الثروة الأغلى والأهم في صناعة أي نهضة. ولتحقيق هذه الأهداف؛ خصصت الرؤية برنامجًا يُعنى بتحول القطاع الصحي، ويضع صحة الفرد والمجتمع على رأس أولوياته، من خلال صناعة تحولٍ جذري في القطاع الصحي والارتقاء به وتعزيز قدراته وتحسين خدماته، وتنفيذ مجموعة من المبادرات والمشاريع التي تسهم في تحقيق محور رؤية المملكة 2030 في الوصول إلى مجتمعٍ حيوي. وذلك من خلال تحقيق 4 أهدافٍ استراتيجية وهي: تسهيل الحصول على الخدمات الصحية، والتأكد من وصولها في الوقت والمكان المناسبين، والتوسع في التحول الرقمي الصحي، والتوزيع الجغرافي الشامل بما يضمن وصول الخدمة لكافة سكان المملكة على اتساع رقعتها الجغرافية وترامي أطرافها. لذا عملت المملكة على إطلاق خدمات مبتكرة ونوعية مثل "مستشفى صحة الافتراضي" الذي يقدم خدمات استشارية وتخصصية عن بُعد، منها إسهامه في إنقاذ حياة الكثيرين من خلال التدخل العاجل وتقديم الاستشارات للحالات الحرجة دون الحاجة لنقلها للمستشفيات الرئيسية. كما توسعت المملكة في إطلاق التطبيقات الصحية الإلكترونية التي تتيح الخدمات الصحية عن بُعد، ومنها تطبيق صحتي الذي يضم أكثر من 26 خدمة صحية، ليخدم أكثر من 27 مليون مستفيد. فيما تمكنت المملكة من العمل على نشر الخدمات الصحية على اتساعها من خلال الوصول بالخدمات الصحية الأساسية لجميع التجمعات السكانية بما فيها الطرفية، وحرصت على نشر مراكز الرعاية الأولية ليتجاوز عددها 2000 مركز في كافة أنحاء المملكة، منها 280 مركز تقدم خدمات رعاية طبية ممتدة وعاجلة على مدار الساعة. وعملت كذلك على تحسين مستوى الخدمات الإسعافية وتسريع وصولها واستحدثت مسارات مخصصة للرعاية العاجلة ونقل حالات الجلطات القلبية والسكتات الدماغية لأقسام القسطرة في المستشفيات دون المرور على أقسام الطوارئ بما أسهم في إنقاذ حياة أكثر من 430 خلال عام 2022 فقط. ويختص ثاني أهداف البرنامج بتحسين جودة وكفاءة الخدمات الصحية، من خلال دعم استجابة النظام الصحي للاحتياجات والتوقعات الصحية للمجتمع من خلال الكوادر الصحية المؤهلة، وبُنى تحتية متينة ورعاية صحية مبنية على أعلى معايير الجودة الصحية وهو ما أثبت أهميته خلال جائحة كورونا، حيث كان النظام الصحي في المملكة واحدًا من الأنظمة العالمية القليلة التي صمدت في وجه الجائحة واستطاعت التصدي لها والتعافي منها بأقل الخسائر الممكنة. كما نتج عن جهود التحول في القطاع الصحي إنشاء ملف صحي موحد من أجل حفظ بيانات المستفيد في وجهةٍ موحدة وشاملة، تسهم في الربط بين كافة مقدمي الخدمات على المستوى الوطني، وتسهِّل عملية الحصول على بيانات المستفيد.. كما عملت المملكة في هذا الشأن على تحديد وتنظيم الأدوار لجهات القطاع الصحي من خلال فصل دور المنظم عن مقدم الخدمة عن الممول، بما يسهم في رفع فاعلية منظومة الصحة، بحيث تكون وزارة الصحة في الجهة المنظمة والمشرفة، وتتولى شركة الصحة القابضة ممثلةً بالتجمعات الصحية تقديم خدمات الرعاية الصحية المتكاملة للمستفيدين وفقًا لنموذج الرعاية الصحية الحديث، ويتولى مركز التأمين الصحي الوطني التمويل لهذه الخدمات. كما تولدت عن التحول الصحي جهود متعلقة بالتحول المؤسسي منها تحويل مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث إلى مؤسسة مستقلة غير هادفة للربح. كما اهتمت المملكة بتعزيز المشاركة المجتمعية وتمكين القطاع الثالث من أفراد ومؤسسات للمساهمة في تحقيق مستهدفات الصحية المنبثقة من رؤية المملكة 2030، من خلال تأسيس صندوق للوقف الصحي ومنصة "شفاء" الخيرية التي أسهمت في علاج أكثر من 6000 حالة منذ تأسيسها، ومركز لتمكين التطوع الصحي وصل من خلاله عدد الراغبين في التطوع إلى أكثر من نصف مليون. فيما يعنى ثالث أهداف البرنامج بتعزيز الوقاية ضد المخاطر الصحية وذلك من خلال تعزيز الصحة الوقائية العامة وزيادة الوعي المجتمعي وعمليات التحصين ضد الأمراض، بالإضافة إلى التعامل مع الأزمات الصحية للأمراض المعدية وغير المعدية بما في ذلك التعامل مع الأوبئة والكوارث الطبيعية والحد من الآثار العامة لانتشار الأوبئة على المستوى الوطني. وقد استشرفت المملكة المستقبل في هذا الجانب من خلال تأسيسها لهيئة مختصة بالصحة العامة، أسهمت في رصد وباء كورونا مع بدايته، ووضع الخطط التي من شأنها الحد من انتشاره وتقليل آثاره. كما توسعت المملكة في الكشف المبكر عن الأمراض المعدية وغير المعدية، من ذلك الفحص المبكر لحديثي الولادة، وإجراء الفحوصات الأساسية إلى 99% من حديثي الولادة في المملكة خلال عام 2022، وتشمل هذه الفحوصات الكشف المبكر عن 21 مرض وراثي بما فيها أمراض التمثيل الغذائي والغدد الصماء الوراثية، بما يسهم في تعزيز الصحة العامة للمجتمع والحد من الإعاقة والتدخل العلاجي المبكر، ومنها كذلك الفحص المبكر عن سرطان الثدي. وهي حالات يمكن شفاؤها بالكامل بسبب اكتشافها مبكرًا. كما كانت للمملكة تجربة عالمية في مجال مكافحة الملاريا؛ حيث عممت منظمة الصحة العالمية تجربة المملكة في مجال مكافحة الملاريا في عام 2019 على بقية الدول للاستفادة منها، ففي ذلك العام لم يتم تسجيل أي حالة إصابة محلية، بالإضافة إلى تغطية علاج الملاريا بنسبة 100% مع الوقاية الكاملة لكل السكان المعرضين لخطر الإصابة. كما أسهم التحول الصحي في المملكة في اتساع مفهوم الصحة، ليشمل تعزيز السلامة المرورية، وهو رابع أهداف البرنامج، حيث يستهدف تحسين الطرق والمنعطفات واتباع أحدث معايير السلامة على الطرق، حيث عملت المملكة على مسح وتقييم كامل شبكة طرق المملكة البالغ طولها أكثر من 73 ألف كيلومتر، وفي عام 2022 وحده تمكنت من تحسين أكثر من 100 تقاطع خطر ومنطقة خطرة في أنحاء المملكة، وتركيب أكثر من 1000 لوحة تحذيرية وإرشادية. وهو ما انعكست آثاره على جوانب أساسية أهمها تقليل الإصابات التي قد تؤثر على جودة حياة الأفراد، وخفض الخسائر البشرية والوفيات الناتجة عن هذه الحوادث، إضافةً إلى خفض معدل انتشار المخالفات الخطيرة. حيث استطاعت المملكة إحداث نقلة كبيرة في أعداد الوفيات الناتجة عن هذه الحوادث والتي كانت في عام 2016 -مثلًا- تصل إلى حوالي 8000 آلاف وفاة سنويًا، حتى أصبحت في عام 2022 تصل إلى نصف هذا العدد، بالرغم من ازدياد عدد السكان في المدن السعودية. إن ما اتجهت إليه المملكة من تحولٍ شامل للقطاع الصحي، هو نموذج لسعي الدول نحو تعزيز أنظمتها الصحية، والاهتمام بصحة المجتمع على اختلاف فئاته وأعماره ومحطات حياته، وبذل الجهود من أجل قطاعٍ صحي متكامل، وصحةٍ للجميع.