من أين أبدأ؟! حيرتي مع والدي - رحمه الله - الوحيدة معي ومنذ أبصرت الحياة حتى بعد أن انتقل إلى جوار ربه الرحمن الرحيم، إنه والدي و»صديقي» في آن واحد، ومفهومٌ أن يكون والدك صديقك في حياته، أما الثانية فهي موضوع هذه الأسطر التي أكتبها مغموراً بحزن ذكرى وفاته الأولى، حيث ودّعنا بعد أن أخذ معه انتظار الأمل وطعم الحياة وألوانها وطعم الدهشة بالجديد، وأودعنا في نعيمٍ من السمعة الطيبة والصيت الحسن حتى لكأنه لم يمت فمع مرور الوقت تزداد سجاياه ومآثره في ذاكرة المحبين والأبعدين والأقربين. رحم الله والدي رحمة واسعة، فقد أصبح الآن أقرب الأصدقاء إلى قلبي، أصنع مع شخصيته الجادة المرحة سيناريوهات حوار على طرق السفر السريعة كأنه أمام ناظري، أذكر كلامه عن موقع نمر به، أذكر محاولاته ومحاوراته الجادة المقنعة مع المتشددين ضد تعليم البنات أو ضيقي الأفق، وأكبر فيه عدم ذكر أسمائهم أو بلدانهم في ثنايا كتاب رحلته في الحياة كونه تاريخ حياته، فأسأل طيفه سؤالاً وأجيب عنه، أذكر جدولته لوقت يومه بحيث لا يفوته واجب ديني، أو عملي أو اجتماعي، وكنت في كل مرة من هذه الجدولة أشعر أن اليوم أطول من اليوم الذي قبله، نصائحه لي، ورحمته بي، ولطفه معي دون أن يظهر لي إيمانه بأنني مازلت «محمد» ابنه ذا الخمسة عشر عاماً. والدي الذي أراه متواضعاً في ملبسه وملمسه وكلامه وسلوكه في البيت، هو ليس نفسه حين أرى احترام الشخصيات الاعتبارية في المجتمع له في لقاءاته - رحمه الله - معهم، بعضهم يذكر قصة إيجابية لوالدي لم يقلها لي - رحمه الله - فأستغرب ذلك إلا أن هذا الاستغراب سرعان ما يذوب في حالة فخر فاخرة تشعرني بأني ابنٌ لوالدٍ استثنائي. نعم صار أبي أكثر صديق لي وألصق بي، أستذكر دروسه الاجتماعية المباشرة وغير المباشرة لي، أحببت الكتب التي يحبها أكثر بعد وفاته. أحببت أصدقاءه أكثر فأكثر، أحببت كرسيه ومجلسه وأوقاته المفضلة أكثر، صرت أميل لأكلاته المفضلة أكثر من ذي قبل. وأذكر دستوره في الحياة: من كان صالحاً فالله وليه ونصيره ومعينه. رحمك الله يا والدي، فقد مرّت سنة على وفاتك وعلى غيابك المر لكنني يا أبي ويا صديقي على الوفاء والعهد الذي عرفتني بهما ما حييت، رفع الله منزلتك في الآخرة كما رفعها في الدنيا، وفي يوم سنلتقي بإذن الله في الجنان عند الرحمن الرحيم، هذا شوق المحب الذي يزداد إعجاباً وإكباراً لك يا والدي؛ الله يجمعنا بك في جنات النعيم وأحبابنا وجميع موتي المسلمين.