سأتحدث اليوم عن رجلٍ كان له دورٌ مهمٌ في صراع الحداثة والتقليد سيأتي تناول هذا الدور لاحقا : الدكتور على البطل رحمه الله كان صاحب منهج خاص به في دراسة الشعر الجاهلي وهو منهج قائم على التحليل الأسطوري. وقد تضمن هذا المنهجَ وتطبيقاتِهِ كتابُهُ المهم (الصورة في الشعر العربي حتى آخر القرن الثاني الهجري) تلقفني في سنتي الأولى في جامعة الملك عبدالعزيز في قسم اللغة العربية ، وكان من حسن حظنا أنه هو من درسنا الأدب الجاهلي وكنت أتابع تحليله للشعر الجاهلي وفق المنهج الأسطوري بانبهار وشغف ولذة اكتشاف شيء جديد. أدرك هو ذلك واهتمامي بهذا النوع من الدراسة وقربني منه كثيرا لدرجة أنه ( ولا أزال أتذكر تلك اللحظة ) أخذني مرة معه إلى الكوفي شوب في فندق العطاس، شربنا القهوة وتحدثنا كثيرا. كان حديثه يفتح لي آفاقا كثيرة وبقدر ما كان يحدثني كان يسمع مني، ولاحقا صرت أزوره في بيته ونتناقش في أمور كثيرة في شتى المجالات : الشعر والفن والسياسة والميتافيزيقيا. كان لديه الكثير من الصبر وهو يشرح لي بعض النظريات السياسية. كنت أزوره أيضا في وجود عائلته زوجته أستاذة الأدب الفرنسي الدكتورة نادية صليب وابنتها من زواج سابق (مي) التي كان لها الدكتور علي هو الأب، وابنتهما معا الصغيرة والوحيدة (نادية).وكثيرا ما كنا نتناول الطعام معا .أذكر مرة أننا كنا خارجين معا نمشي ونتحدث وحين صرنا قريبين من بيته اشترى وجبة من ( البخاري) وصعدنا معا وتناولناها. كنت في شبابي نزقا وكان يحتمل هذا النزق بابتسامة أب حنون، أذكر في إحدى المرات أنني زرته في بيته وكان يتناول وجبة من (الكابوريا)..كان يقشر الكابوريا ويخرج قطعة اللحم الصغيرة يتناولها ويضع الباقي جانبا. هالني العدد الكبير من حبات الكابوريا الملقاة جانب السفرة فقلت له : ما هذا يا دكتور ؟ كيف تأكل كل هذه الكمية الكبيرة ؟! ( طبعا حين تعرف أن ما يتم استخلاصه وأكله منها قطعة صغيرة جدا تعرف أن الكمية لم تكن كبيرة لكنها ربما كانت كذلك لمن يرى الكابوريا تؤكل للمرة الأولى في حياته) أجابني وهو يبتسم : وانت مالك يا بني هو انت اللي بتاكل والا أنا ؟! لا أذكر أنه سمح لي في أي يوم أن أدفع شيئا لقهوة شربناها معا في مقهى أو وجبة تناولناها معا في مطعم. كنت أكتب محاولات شعرية ( ساذجة) وأريها إياه وكان يبدي إعجابا بها وربما اشاد بصورة هنا أو استعارة هناك .( أدركت لاحقا وبعد أن كبرت قليلا أنها كانت مجرد تشجيع لتحفيزي للأفضل وعدم صدمي بأن ما أكتبه كان شيئا ساذجا). كان لي عدد من الأصدقاء في القسم لكن اقربهم كان الشاعر المهم حاليا مسفر الغامدي والكاتب المعروف الأخ حسين بافقيه وكان تلميذا لامعا يفوقنا جميعا في كثرة القراءة واستثمار ما يقرأ ولا زلت أذكر أني كنت مرة عند الدكتور علي في مكتبه فقدم لي ثلاثة من كتبه وخط لي كلمات إهداء جميلة عليها وكلها فيما أذكر عن شعر السياب، فقد كان الدكتور علي رحمه الله محبا كبيرا لشعره ، ومنه تعرفت على السياب بشكل قريب وأحببته. المهم أني حين خرجت مزهوا بما معي قابلني في الممر صديقي حسين بافقيه وحين شاهد الكتب الثلاثة معي وعليها إهداء الدكتور وكلماته الرقيقة أخذته غيرة الأنداد وتساءل بانفعال: كيف يهدي لك الدكتور أنت وحدك كتبه ؟! ( من المؤكد أن الدكتور علي أهداهم لاحقا كتبه أو بعضا منها كما فعل معي ) رحم الله الدكتور علي أبا ومعلما وأستاذا وغفر لي قلة وفائي معه، فلم أكتب عنه حرفا واحدا بعد وفاته كما فعل حسين ومسفر، ربما لأني لم أكن أعرف كيف يمكن أن أكتب عنه وكيف ألمُّ كل ما كان يعنيه لي..(وكان بالنسبة لي أكثر من شخص) ، كيف ألمُّ كل هؤلاء وأتحدث عنهم كشخص واحد ؟! كان رحمه الله يعتقد أني سأكون يوما ما شيئا مهما وكم يؤسفني أنني لم أحقق ما كان يأمله فيَّ !!