عززت التصورات الجيوسياسية السعودية في بناء العمق الاستراتيجي مع الدول العالمية المؤثرة، حيث جذبت المملكة بقوتها الناعمة، الصين، القوة العالمية الاقتصادية، ورسمت الرياض وبكين من خلال المباحثات التاريخية المكثفة التي أجراها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز والرئيس الصيني شي وتوقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين المملكة والصين، رسمت معالم الشراكة للأجيال القادمة هذه الشراكة، التي لا تتوقف عند حدود التعاون في مجال الطاقة والسياسة، فحسب بل تتوسع في إطار الشراكة الاستراتيجية الشاملة بمفهومه المتنوع وتعزيز مبدأ المصير المشترك ووحدة المصير، حيث أكد الجانبان في البيان المشترك الذي صدر أمس على مواصلة دعم المصالح الجوهرية، لبعضهما بثبات، ودعم كل جانب الجانب الآخر في الحفاظ على سيادته وسلامة أراضيه، وبذل جهود مشتركة في الدفاع، عن مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وغيره من قواعد القانون الدولي والمبادئ الأساسية للعلاقات الدولية. وأكد الجانب السعودي مجددًا على الالتزام بمبدأ الصين الواحدة. وهذا المحور الجيوستراتيجي في البيان المشترك يعكس تعظيم البلدين ودعمهما الراسخ لمبدأ السياسة الخارجية السعودية منذ الأزل، لسياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية وهو نفس التوجه الذي تبنته الصين منذ عقود، حيث نجحت في تعزيز سمعتها بهذا المنظور الذي افتقرت إليه القوى الكبرى.. كما أن التأكيد على مبدأ على وحدة وسلامة الأراضي، يعكس تماهي وتناغم عال للحفاظ على أمن البلدين.. وجاء إعلان دعم الجانب الصيني للمملكة في الحفاظ على أمنها واستقرارها، وتأكيد معارضتها، بحزم أي تصرفات من شأنها التدخل في الشؤون الداخلية للمملكة العربية السعودية، ورفض أي هجمات تستهدف المدنيين والمنشآت المدنية والأراضي والمصالح السعودية؛ كموقف صيني ثابث وراسخ ومبدئي، يعكس وصول الشراكة مابين البلدين لمفهوم استراتيجي هو أن أمن المملكة من أمن الصين والعكس وهذا يعكس حجم ومفهوم الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين حيث دخلت هذه الشراكة لأبعاد استراتيجية منوعة للأجيال القادمة وللأمد البعيد واتخاذ خطوات تراعي المصالح السعودية والصينية الآخذة، في الاتساع إقليمياً ودولياً ومواءمة استراتيجيات التنمية مع دول المنطقة، والتي ستخلق آفاقاً واسعة للتنمية، في العلاقات الصينية الخليجية، وزيادة حضور الدور الصيني ونشاطه، في العديد من المجالات المتنوعة، والتفاعل مع المعطيات التي تكتسب أهمية خاصة في ظل التطورات الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة والعالم.. وأخذ الملف النفطي حيزا كبيرا في المباحثات حيث أكد الجانبان بحجم التجارة النفطية بينهما وأسس التعاون الجيدة لما تتميز به المملكة من موارد نفطية وافرة، وما تتميز به الصين من سوق واسعة، وأشارا إلى أن تطوير وتوطيد التعاون بينهما في مجال النفط يتفق مع المصالح المشتركة للجانبين، مؤكدين على أهمية استقرار أسواق البترول العالمية.. ورحبت جمهورية الصين الشعبية بدور المملكة في دعم توازن واستقرار أسواق البترول العالمية، وكمصدّر رئيس موثوق للبترول الخام إلى الصين. واتفق الجانبان على بحث الفرص الاستثمارية المشتركة في قطاع البتروكيماويات وتطوير المشاريع الواعدة في تقنيات تحويل البترول إلى بتروكيماويات.. واحتفظت المملكة بصدارة إمدادات النفط إلى الصين في العام 2021، إذ ارتفعت الواردات الصينية من المملكة بنسبة 3.1٪، مقارنة ب2020 وزادت حصتها إلى 17٪ من إجمالي الواردات، واحتلت الصين مركز الشريك التجاري الأول للمملكة لآخر 5 سنوات، إذ كانت الوجهة الأولى لصادرات المملكة ووارداتها الخارجية منذ العام 2018، حيث بلغ حجم التجارة البينية 309 مليارات ريال، في العام 2021، بزيادة قدرها 39 % عن العام 2020، كما بلغ إجمالي حجم الصادرات السعودية إلى الصين 192 مليار ريال، منها صادرات غير نفطية بقيمة 41 مليار ريال. وبلغت قيمة الاستثمارات السعودية في الصين 8.6 مليارات ريال وجاءت المملكة في المرتبة 12 في ترتيب الدول المستثمرة في الصين حتى نهاية العام 2019، في المقابل بلغت قيمة الاستثمارات الصينية في المملكة 29 مليار ريال بنهاية العام 2021. تسعى المملكة إلى بناء شراكة استراتيجية تدعم التجارة والاستثمار مع الجانب الصيني، وتجعل المملكة الشريك الاستراتيجي الأول الموثوق للصين في المنطقة، حيث استحوذت المملكة على أكثر من 20.3٪ من استثمارات الصين في العالم العربي بين العامين 2005 و2020، البالغة 196.9 مليار دولار، إذ جاءت كأكبر الدول العربية استقبالاً للاستثمارات الصينية خلال تلك الفترة بنحو 39.9 مليار دولار. وحظي التوقيع على "خطة المواءمة" بين رؤية المملكة 2030 ومبادرة الحزام والطريق، بالاهتمام الكبير حيث اتفق الطرفان على أهمية تسريع وتيرة المواءمة بين مشاريعهما في البلدين، وتوظيف المزايا المتكاملة، وتعميق التعاون العملي بين الجانبين بما يحقق المنفعة المتبادلة والتنمية المشتركة. تساعد مبادرة "الحزام والطريق" في تحقيق أهداف "رؤية المملكة 2030"، من خلال التعاون الاستثماري بين البلدين في العديد من المشروعات الكبرى الطموحة التي أطلقتها المملكة، وتسهم في تنفيذها شركات صينية كبرى، وتعد شركة سينوبك سينشري برايت كابيتال العاملة في قطاع التصنيع، والبنك الصناعي الصيني (الأكبر في الصين والعالم من حيث حجم الأصول)، الذي يعمل في قطاع الخدمات المالية والتأمين، من أكبر المستثمرين الصينيين في المملكة وتطور النفوذ السعودي الصيني على المستوى العالمي عبر الدول التي تقع على خط "مبادرة الحزام والحرير، بحيث تكون المملكة ودول مجلس التعاون الخليجي حلقة اتصال بين الصين ودول قارة أوروبا وأفريقيا نظرا لموقعها الاستراتيجي الرابط بين القارات الثلاث". بما يخدم ويحقق المصالح المشتركة للبلدين. ولم يغب ملف الإرهاب في المباحثات حيث أكد الجانبان على رفض واستنكار الإرهاب والتطرف بكافة أشكالهما، ورفض ربط الإرهاب بأي ثقافة أو عرق أو دين بعينه، ورفض ممارسة ازدواجية المعايير في مكافحة الإرهاب، وأهمية نشر ثقافة الاعتدال والتسامح. كما أشادا بمستوى التعاون الأمني بين البلدين الصديقين في مجال مكافحة الإرهاب وتمويله. وظهر التوافق المشترك في المجالات السياسية. في الشأن السياسي، حيث أكد الجانبان دعمهما الكامل للجهود الرامية للتوصل إلى حل سياسي للأزمة اليمنية. وأشاد الجانب الصيني بمبادرة المملكة لإنهاء الحرب في اليمن، وجهودها ومبادراتها العديدة الرامية إلى تشجيع الحوار بين الأطراف اليمنية، كما أكدا أهمية دعم مجلس القيادة الرئاسي في الجمهورية اليمنية، لتمكينه من أداء مهامه، والوصول لحل سياسي للأزمة اليمنية وفقاً للمبادرة الخليجية وآلياتها التنفيذية، ومخرجات الحوار الوطني اليمني، وقرار مجلس الأمن رقم 2216 (2015م). كما أكدا أهمية التزام الحوثيين بالهدنة، والتعاون مع المبعوث الأممي الخاص لليمن والتعاطي بجدية مع مبادرات وجهود السلام، للتوصل إلى حل سياسي دائم وشامل للأزمة اليمنية. وثمن الجانب الصيني ما قدمته المملكة من مساعدات إنسانية إغاثية وتنموية للشعب اليمني من خلال مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، والبرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن. في الشأن الإيراني ظهر التناغم في موقف البلدين حيث، اتفق الجانبان على ضرورة تعزيز التعاون المشترك لضمان سلمية برنامج إيران النووي، ودعا الجانبان إيران للتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والمحافظة على منظومة عدم الانتشار، وأكدا على احترام مبادئ حسن الجوار، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. وحول القضية الفلسطينة ظهر الموقف الثابت للبلدين حيث اكد على ضرورة تكثيف الجهود الرامية للتوصل إلى تسوية شاملة وعادلة للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي، وإيجاد أفق حقيقي للعودة إلى مفاوضات جادة وفاعلة لتحقيق السلام وفقاً لمبدأ حل الدولتين، وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، ومبادرة السلام العربية، بما يكفل للشعب الفلسطيني حقه في إقامة دولته المستقلة على حدود 1967م وعاصمتها القدس ويأتي حرص المملكة على تنمية العلاقات الثنائية مع الجانب الصيني في سياق توجهها الاستراتيجي لتعزيز علاقاتها وشراكاتها الثنائية مع جميع الدول والقوى الدولية المؤثرة، وإقامة علاقات متوازنة معها تخدم أهداف المملكة، وتسهم في حماية مصالحها. على المستوى الثنائي شهد سمو ولي العهد والرئيس الصيني، مراسم تبادل عدد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم الثنائية بين البلدين، والتي تضمنت، خطة المواءمة بين رؤية المملكة 2030 ومبادرة الحزام والطريق الصينية، مذكرة تفاهم في مجال الطاقة الهيدروجينية، واتفاقية بين المملكة والصين للتعاون والمساعدة القضائية في المسائل المدنية والتجارية والأحوال الشخصية ومذكرة تعاون لتعليم اللغة الصينية ومذكرة تفاهم في مجال تشجيع الاستثمار المباشر. وخطة عمل لتفعيل بنود مذكرة التعاون في مجال الإسكان.. هذه الاتفاقيات التي ستعطي دفعة قوية للشراكة الاستراتيجية الشاملة.. كما تم منح رئيس جمهورية الصين الشعبية شهادة الدكتوراه الفخرية في الإدارة من جامعة الملك سعود، استحقاقاً وتكليلاً لإنجازاته وجهوده الكبيرة في الإدارة والقيادة، وعرفاناً للعلاقة المزدهرة والتعاون المستمر بين البلدين الصديقين.. كما تم التوقيع هامش القمة السعودية الصينية على أكثر من 20 اتفاقية أولية بقيمة تتجاوز 110 مليارات ريال. وأكد المراقبون أن تطور العلاقات الصينية السعودية قد يدفع دولا إقليمية أخرى للتفاعل إيجابا مع الدبلوماسية الصينية، وذلك نظرا لثقل دور المملكة والصين في المنطقة. ويعد زيادة التواجد الصيني في المستقبل في الملاحة البحرية الدولية القريبة من المياه الخليجية سينهي عملية القرصنة والتوترات الإقليمية، وهو ما قد يؤثر سلبا على الملاحة الدولية هناك، نظرا لاشتداد التنافس الدولي على تلك المنطقة. لقد رسمت الصين ملامح علاقاتها مع دول المنطقة وإيجاد حقائق جيوسياسية تجسد تنامي الدور المحوري للصين وقدرتها في تعزيز دائرة عمقها الاستراتيجي في المنطقة، عبر تشييد جسور التعاون والشراكات الاستراتيجية باختلاف طبيعتها وأبعادها المختلفة، في سياق إعادة توجيه مواردها الاستراتيجية وخبراتها باتجاه تحقيق مصالحة القومية. ولن تكون هذه الخطوة سوى البداية لمزيد من سياسات الصين الخارجية الجريئة والحازمة. لقد عكست زيارة رئيس جمهورية الصين الشعبية شي جين بينغ إلى المملكة حرص قيادتي البلدين على تعزيز العلاقات الثنائية، وشراكتهما الاستراتيجية واستثمار إمكاناتهما السياسية والاقتصادية في خدمة مصالحهما المشتركة لزيادة التنسيق في الشأنين السياسي والأمني، وتعزيز أوجه التعاون في الجوانب التجارية والاستثمارية، والطاقة، والثقافة، والتقنية. وحرص المملكة على تنمية العلاقات الثنائية مع الجانب الصيني في سياق توجهها الاستراتيجي لتعزيز علاقاتها وشراكاتها الثنائية مع جميع الدول والقوى الدولية المؤثرة، وإقامة علاقات متوازنة معها تخدم أهداف المملكة، وتسهم في حماية مصالحها. وتتشارك المملكة والصين في عضوية عدد من المنظمات والتكتلات الاقتصادية الدولية، مثل منظمة التجارة العالمية، ومجموعة العشرين، كما شاركت المملكة كعضو مؤسس إلى جانب الصين في إنشاء "البنك الآسيوي لاستثمار البنية التحتية"، والذي يهدف إلى تعزيز التنمية الاقتصادية، وتحسين ترابط البنى التحتية في قارة آسيا وخارجها، من خلال الاستثمار في البنية التحتية الخضراء التي تعكس الاستدامة والابتكار، إضافة إلى تعزيز التعاون والشراكة الإقليمية في معالجة تحديات التنمية.