علينا أن نعيد قراءة العبقريات الشعرية العربية في ضوء أدبنا المعاصر الذي انبثق من الشعر العمودي إلى شعر التفعيلة وقصيدة النثر وبالذات قراءة جديدة لعبقرية المتنبي الشاعر العبقري الأول في اللغة العربية، وبشكل عام يعتبر المتنبي رمزا للعبقرية الشعرية التي تسمو بذائقتها إلى سماء الفصحى والتي بدورها تناطح السحاب في شكل قصائد رنانة تعلو على كل نظم. إن قراءة شاعر خصب كالمتنبي كفيلة بأن تخرج كل جماليات اللغة العربية التي تكونت شفهيا في الحضارات ما قبل الإسلام فمن المعروف أن اللغة العربية كغيرها من اللغات السامية بدأت بالصوت قبل أن يتم جمعها ودراستها على يد علماء النحو والصرف والأدب وأولهم الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي جمع عروض الشعر ومن بعده كل من سيبويه ونفطويه ومسكويه وكل واحد منهم قد ترك بصمته في علم النحو أو (syntax) وكذلك علم الصرف أو (morphology) فكانت إسهامات علماء المسلمين الفرس ذات أثر في اللغة العربية. هناك الكثير من علماء اللغة العربية الذين درسوا القصيدة والذين أصبح الأدب شغلهم الشاغل أمثال عبد القاهر الجرجاني ودراسة سريعة فاحصة لشعر المتنبي كتلك التي قام بها ابن جني فما أجمل اللقاء خصوصا بين المتنبي وابن جني فالمتنبي شاعر بالفطرة وابن جني عالم بأسرار وخبايا اللغة العربية ومفردات اللغة العربية فكانت حاجة كل واحد منهما للآخر كبيرة جدا. وحتى لا نظلم شعراء العربية الآخرين الذين آمنوا بقدرة الشعر على التأثير في كل شيء أيضا فهناك أبو تمام وشعره يعانق السماء فهو من ناحية أقرب إلى القراء العرب ومن ناحية أقرب إلى علماء اللغة العربية الذين قالوا فأجادوا والذين جسدوا هموم الأمة الإسلامية وقتذاك. من الشعراء التموزيين الذين يملكون لغة مرموقة وشخصية عظيمة بدر شاكر السياب ومصطلح الشعراء التموزيون هو مصطلح جبرا إبراهيم جبرا حيث أطلقه على شعراء مجلة شعر والذين آمنوا في أسطورة تموز ولعل من أبرز الظواهر الفنية التي تلفت النظر في تجربة الشعر الجديدة هي استخدام الرمز أداة للتعبير عما يجيش في النفس البشرية من تناقضات وتمزقات ومحبة وكراهية. كان الشعر أداة للتكسب على أيدي بعض المتنطعين في بلاط الحاكم فالبعض كأنما ينحت من صخر والبعض كأنما يغرف من بحر حتى جاء ابو العلاء المعري حاملا معه مشاعر ساميه تجسدت في (اللزوميات) و( سقط الزند) فكان مداد كلماته مرادفا لعبقريته الشعرية التي لم تتوقف عن العطاء والبذل حتى لكأن حياة المعري مثال للبذل والعطاء مجسدة في كل معانيها فلم يزل ملهما حتى ظهر في العصر الحديث مع طه حسين عميد الأدب العربي وعباس محمود العقاد متفوقا بذلك على أسطورة الحلاج التي ظهرت في مسرحية صلاح عبدالصبور (مأساة الحلاج). في هذا العالم الذي تزدحم فيه اللغات، وتتكاثر فيه الأفكار، ويكثر فيه شعراء الايدلوجية والطائفية والمذهبية الذين أعموا أعينهم عن مشاهدة الحق وأصموا آذانهم عن سماع الحق إلا ما يوافق مذهبهم أو أيديولوجيتهم والتي بدورها تمارس أدلجة الفكر. فمن يحكم لمن؟ أو من يحكم من؟ الطائفة أم الشاعر. ومن الذي سبق الآخر؟ ومن سيتفانى في خدمة الآخر؟ أشهر الشعراء التموزيون بدر شاكر السياب وهو رجل الحرمان الذي اعتنق الشيوعية لا عن عقيدة فلسفية وإنما عن نقمة اجتماعية شارحا كل ذلك في كتابه (كنت شيوعيا) وأقرأ إن شئت كنعانيات عز الدين المناصرة وقصيدة قالت الأرض وأدب عبدالله البردوني لتكون على مقربة أكثر من الشعر التموزي. جبرا إبراهيم جبرا