في سنواته الثلاث الأخيرة، أكثر البياتي من الحديث عن كابوس ثقيل لازمه فترة ومضى. وتراءى الكابوس للشاعر، بعد أن أمضى عشر سنوات في اسبانيا ورحل إلى عمّان، في مدينة صفراء البيوت، لا خضرة فيها ولا ماء ولا طير. ولم يكن ما رآه الشاعر، كما قال، إلا "مدينة الموت"، التي زارته ورحلت، ممهدة لزيارة مقبلة، تعطي الشاعر "بيتاً" في مدينة صفراء لا رحيل عنها. والمدينة، خضراء أم صفراء، هي المجاز الشعري الأثير الذي لازم الشاعر طويلاً وما سئم منه، فالمدينة طاغية الحضور في ديوانه الثاني "أباريق مهشمة - 1954"، الذي جاء بعد أربع سنوات من ديوانه الأول "ملائكة وشياطين"، والمدينة متجددة الحضور في الأعمال اللاحقة. والمدينة التي خلقها الخيال الشعري، مرئية ولا مرئية في آن، مرئية في "المدن الفاسدة" التي تطرد الأرواح، ولا مرئية في "المدن الحقيقية"، التي حنّ إليها الخيام والحلاج والمعري واشتاقت إليها "عائشة". وشكلت هاتان المدينتان، وهما وجه آخر لثنائية الخير والشر، محوراً فكرياً لمشروع البياتي الشعري كله تقريباًَ، إن لم تشكلا عنصر تطوير وعنصر إعاقة معاً، عنصر تطوير يحض الشاعر على تأمل وجوه الخير المتعددة، وعنصر إعاقة يجبره على الدوران في فضاء محدود المواضيع. يقول البياتي في "تجربتي الشعرية": "وكانت الصدمة الأولى حينما اكتشفت حقيقة المدينة، كانت مدينة مزيفة... أما أعماق المدينة الحقيقية... فقد شعرت بأنها ماتت واختفت إلى الأبد". وما مسار البياتي، في الشعر والحياة، إلا بحثه المتأبد عن المدينة الأخرى التي لا تسكنها الضباع. عاش في الريف وعرف المدينة حين جاء بغداد طالباً في دار المعلمين العليا، وتخرج منها عام 1950، مجازاً في اللغة والأدب العربيين، وملماً بأشياء من الأدب واللغة الانكليزية، ولعل المدينة التي صدمته، ولها ملامح "مهرج" بائس اللباس، هي التي دفعته، وقد غدا مدرساً في التعليم، إلى الاقتراب من الحزب الشيوعي والاشتراك في تحرير مجلة "الثقافة الجديدة"، والأخذ بمعايير الالتزام والواقعية. وكان على البياتي، وقد غدا شهيراً بعد "أباريق مهشمة" ودراسة ذائعة الصيت وضعها عنه احسان عباس عام 1955، أن يدفع ثمن التزامه. فعرف النفي للمرة الأولى بين عامي 1954 و1958، ووضع قصائد عن "الرايات الحمراء وأحلام الكادحين"، نشرها في ديوانين في القاهرة هما: "المجد للأطفال والزيتون - 1956" و"أغاني في المنفى -1957". ومع ان الشاعر قال لاحقاً: "لقد انتسب الحزب الشيوعي العراقي إليّ ولم انتسب إليه"، فإن علاقته بالحزب لم تأخذ شكل المواجهة الصارخة، التي انتهت إليها علاقة السياب، وإن كان البياتي وبعد عام 1962، أي العام الذي وضع فيه مسرحيته "محاكمة في نيسابور" قد دخل في مراجعة واضحة، تبعده عن الالتزام السياسي شيئاً فشيئاً، من دون أن تقطع بينه وبين "أحلام الفقراء". لذلك ظل يحتفظ بلغته ورموزه في "الدار والكلمات -1964" وفي "سفر الفقر والثورة -1965". غير أن أحوال العراق السياسية، كما القلق المتجدد الذي سكن الشاعر، جعلت من المنفى الذي لازمه منذ الطفولة كما قال ذات مرة، زميلاً للبياتي وقريناً له، يعيش في القصيدة مرات محدودة، ويصاحبه في الحياة مرات لا حصر لها. فذهب إلى موسكو ملحقاً ثقافياً 1959 وعاش فيها خمس سنوات، قبل أن يلتحق من جديد بمنفاه الداخلي والخارجي في آن. وفي حياة ارتضت من المنفى مركزاً لها، اختلف البياتي إلى دمشقوالقاهرة وبيروت وبرلين وفيينا وعمّان، وعاش في اسبانيا مدة عشر سنوات كاملة 1980-1990، وكان في هذه المدن جميعاً ينقب عن مدينته المفقودة، ويبحث عن "الولادة في مدن لم تولد"، كما يقول في ديوانه العشرين "بستان عائشة" الذي ظهر في القاهرة عام 1989. ولذلك يلتحف بمنفاه، ويظل وحيداً ك"قطرة المطر" معلناً "موت المتنبي" في "النار والكلمات"، بعد أن التهمت المحاكم الظالمة عمر الخيام في "محاكمة في نيسابور"، ولائذاً بمأثور الحلاج وبحكمة المعري، وبتأملات الشيرازي وفريدالدين العطار، ومستأنساً ب"عائشة" التي تموت ولا تموت. يقول البياتي عن رمز "عائشة"، الذي نثره في قصائد كثيرة: "إن عائشة في "الذي يأتي ولا يأتي" وفي "الموت في الحياة"، هي رمز الذاتي والجماعي الذي اتحد كل منهما بالآخر وحلاّ في نهاية الأمر في روح الوجود المتجدد". تردّ عائشة، التي تحيل بدورها على "عشتار الأكادية"، إلى الوجود المتجدد، إلى الموت والبعث، إلى "الطوفان" الذي تسبقه "الاشارة"، كما لو كان الموت بداية حياة جديدة، وكانت نهاية السفر بداية لسفر جديد مليء بالوعود. ولعل جدلية الموت والميلاد هي التي أخذت بيد البياتي، الذي قرأه ماركيز، الروائي الشهير وأثنى على شعره، إلى عالم أساطير ما بين النهرين وإلى الميثولوجيا اليونانية ورموز المتصوفة، بحثاً عن "الإنسان الكامل" الذي قرأ ملامحه في أشعار مايا كوفسكي، اراغون وايلوار. بدأ البياتي، الذي انتسب إلى "شعر عربي عمره أربعة آلاف عام"، كما يقول، برومانسية طاغية، تحاور فيها قصائده "ليلى"، يعرفها ولا يعرفها، وتعرّف، لاحقاً، على "الشعر الملتزم" وقصائد ناظم حكمت الذي التقاه في موسكو، قبل أن يحتفظ ب"لوركا" ويذهب إلى الحلاج في قصيدة قلقة، تجدّد أفكارها أكثر مما تجدد أدواتها الشعرية، رغم جهد مثابر لا انقطاع فيه. فبعد قصائد موزعة على "الفقر والثورة"، سعى البياتي إلى "الديوان - القصيدة"، بل إلى عمل شعري طويل وموحد، تتوزع القصيدة فيه على أكثر من ديوان. وهو ما حاوله في "الذي يأتي ولا يأتي -1966"، و"الموت في الحياة -1968" و"الكتابة على الطين - 1970"، إذ القصيدة - الديوان رؤيا شاملة للأشياء، وإذ الشعر استبصار عميق، ينفذ إلى جواهر الأشياء الصغيرة والكبيرة. ومع أن البياتي أكد الرمز أساساً للخلق الشعري في هذه المرحلة، بعد أن عمل على التجديد العروضي والنغمي في فترة الخمسينات، فإنه بذل جهداً شعرياً لاحقاً في السبعينات، حيث كتب سبعة دواوين يُظهر فيها الوحدة الجوهرية لأشعاره، من خلال تجديد لغة القصيدة وايقاعها وبنيتها . لكن الجهد الأخير جاء محدود النتائج، لأن البياتي عمل على تجديد الأدوات الشعرية من دون أن يضيف شيئاً إلى منظوره القديم أو يعثر على مواضيع شعرية جديدة، كما لو كان قد اكتفى بصقل ما كتب، أو بإعادة كتابة ما كتب من دون صقل كبير، متناسياً أن تجديد التقنية الشعرية لا يستوي من دون تجديد في المنظور الشعري للعالم. وربما يكون لهاث الشاعر وراء قصيدة غائبة قد أملى عليه قلة المراجعة. وسواء عثر كمّ البياتي الشعري على كيفه المطلوب، أم ظلت بين الطرفين مسافة تجمع بين الذهب والرماد، فإن في البياتي ثلاث صفات تؤكده شاعراً حداثياً عالي القيمة: فقد ربط أولاً بين الحداثة الشعرية والمنظور الحداثي للعالم، فعاش زمنه قارئاً ما استجد وما تقادم، وباحثاً عن الإنسان في أحزانه واغترابه وأشواقه المهزومة. واجتهد، ثانياً، في تجسيد منظوره الشعري في مشروع مستمر ومتدفق لا انقطاع فيه، مفتشاً في اتجاهات مختلفة عن عناصر شعرية وثقافية تمده بالثبات والوضوح. ويصدر العنصر الثالث عن مصائر الحداثة الشعرية في العراق، فقد غاب السياب مبكراً في عام 1964، وتخلّت نازك الملائكة عن تجربتها الشعرية، ومزج بلند الحيدري بين الكتابة والصمت، بينما استمر البياتي في كتابة الحداثة الشعرية مدة نصف قرن من الزمن، كما لو كان عليه أن يذهب بتجربة الحداثة الشعرية في العراق إلى حدها الأخير.ثم مات البياتي في المنفى، الذي ألفه مذ كان صبياً، من دون أن يرى "المدينة المثالية" التي حلم بها قالوا في البياتي لقد أحببت كل الحب في اشعار البياتي، متانة الحبكة والتواجد بين مختلف المعاني والمواضيع الذاتية مع المواضيع الوطنية والانسانية العامة. وإني لأحب في هذا الشاعر عفويته وبساطته وصراحته وقابليته المدهشة على تركيز المعاني وبلورتها في قصائده. لقد كابد البياتي الألم فكتب قصائد رائعة. ناظم حكمت ان البياتي في بعض من اشعاره، قد يكون بين أروع من كتبوا شعراً بالعربية، من حيث موضوعاته الشعرية: انها تتعرض للقضايا الاجتماعية، وعلى الرغم من ذلك، تظل بلورته الجمالية واضحة. وعندما يتعرض الى الطبيعة يلبسها ثوباً قشيباً مؤثراً، وعندما ينظم البياتي شعراً كلاسيكياً، هو ذروة الشعر، وقد لا افضل عليه احداً. سعيد عقل