زمن أن تترك سياسات السوق البترولية لجميع المنتجين والمستهلكين، دون تدخلٍ من أكبر منتج نفطي في العالم.. ذهب بلا رجعه. المعادلات السوقية اختلفت، والمصالح فيه كذلك، الولاياتالمتحدة الأميركية مثلا، كانت أكبر مستورد للنفط السعودي واليوم أصبحت دولة منتجة، بل ومنافسة على الحصص السوقية، ولكن العلاقة الاستراتيجية معها لا تزال. حملات التشكيك التي تبناها الساسة الأميركيون مؤخرا بالتزامن مع قرارات أوبك الأخيرة، بأن المملكة تدعم المواقف والمصالح الروسية مجحفة جدا ووقتية وغير صحيحة، وذاكرة التاريخ هنا لا تشيخ. فإن المملكة ومنذ تأسيس أوبك قبل أكثر من 60 عاما وهي تسعى لاستقرار أسواق النفط، وتلعب دور المنتج المرجح، وتتحمل أعباء الحفاظ على استقرار هذا السوق. في العام 1979م وبعد توقف الإنتاج الإيراني ارتبكت أسواق النفط العالمية، وتدخلت المملكة برفع إنتاجها من 8,5 ملايين برميل يومياً إلى 10,5 ملايين برميل يوميا. كذلك الحال كان في الأعوام ما بين 1982م إلى 1985م عندما اختلف أعضاء أوبك فيما بينهم واختارو أن تبقى الأسعار مرتفعة جدا في ذلك الوقت الأمر الذي أدى إلى اتجاه العالم نحو ترشيد الطاقة، لتتدخل المملكة في دور المنتج المرجح بالإضافة لمحاولة إقناع الدول بضرورة خفض الأسعار حتى لا يتضرر اقتصاد العالم وتتضرر الدول الأعضاء كذلك. ثم انهارت الأسعار في العام 1986 نتيجة عدم التزام أعضاء أوبك بحصصهم السوقية وتدخلت المملكة مرة أخرى للعب دورها القيادي كمنتج مرجح وخفضت إنتاجها اليومي إلى مليوني برميل في منتصف ذلك العام رغم أن هذه الخطوة تكلفها التخلي عن حصصها السوقية بالإضافة لنزف الأسعار، وفي نهاية ذلك العام 1986م وبعد تدخلات سعودية كبيرة بخفض الإنتاج ورفعه عاد أعضاء المنظمة إلى طاولة الحوار والالتزام بالحصص السوقية. أما ما بين العامين 1997 و 1998 فالدبلوماسية السعودية لعبت دورًا كبيرًا وحاسمًا حين انخفضت أسعار النفط لما دون 10 دولارات. وفي تاريخنا القريب في العام 2019 حين اشتدت الهجمات الإرهابية على المرافق البترولية وتحديدا في بقيق خرجت المملكة فورا لطمأنة الأسواق بأن المملكة لن تستخدم البترول في حربها وستعمل على استمرار الإمدادات في وقت وجيز حتى لا تتأثر الأسعار بالارتفاع. وفي جائحة كورونا مارست المملكة أدوارها التي لن ينساها التاريخ من خلال أوبك+ عندما سعت للحفاظ على الأسعار وخفض الإنتاج الذي قوبل في البداية برفض روسي أغضب المملكة التي رأت أنه تصرف غير مسؤول في ذلك الوقت، وفاجأت الجميع برفع إنتاجها إلى 12.3 مليون برميل يومياً. وقدمت تخفيضات كبيرة بما يصل إلى 8 دولارات للبرميل، حتى عاد أعضاء أوبك+ بما فيهم روسيا لطاولة الحوار وإدارة الأزمة بما تقتضيه حاجة السوق، وكان النجاح كبيرا لكل المنتجين وكذلك المستهلكين بأكبر خفض في التاريخ قارب 10 ملايين برميل يوميا. انتقال المملكة مؤخرا من سياسة المنتج المرجح الذي يرتفع بإنتاجه ويخفضه وفق حاجة السوق إلى الحفاظ على الحصص السوقية وترك الأسعار لمعطيات العرض والطلب، قرار اقتصادي سعودي بحت، وليس سياسيا موجها ضد أحد، وكل ما في الأمر أن المملكة أصبحت تسير وفق مصالحها البترولية والاقتصادية. قرار الخفض الأخير بمليوني برميل يوميا ليس مفاجئاً على الإطلاق، لا من حيث المعايير السوقية فهو استباقي في عالم يشهد حروبا عدة ومتغيرات واسعة أثرت وستؤثر على طلب البترول، ولا من حيث الوضوح والشفافية التي انتهجتها المملكة سواء في جولات سمو ولي العهد في الدول العربية، والأوروبية، الأخيرة وكذلك أثناء زيارة عدد من زعماء العالم لها ومنها زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن والتي أعلنت المملكة حتى قبل وصوله إلى جدة بأن الملف البترولي خارج أجندة الزيارة، ولم يعد ملفا للتفاوض السياسي والحكم فيه للأسواق ومعطياتها.