لم تكن هذه المرة الأولى التي يعلن فيها زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر اعتزاله العمل السياسي وإغلاق المؤسسات التابعة له، ففي أغسطس 2013، أعلن مقتدى الصدر اعتزاله للعمل السياسي بسبب عناصر محسوبة على التيار الصدري تحمل السلاح. والصدر، الذي أصبح واحدًا من أكبر القوى السياسية في العراق منذ ظهوره في عام 2003، يقود الكتلة الأكبر في البرلمان المؤلف من 329 مقعدًا. وقدم 73 مشرعًا من حركته استقالاتهم بعد انهيار المفاوضات التي أجراها الصدر لتشكيل حكومة ائتلافية مع شركاء سنة وأكراد واستمرت لأشهر. ويرى خبراء عراقيون؛ أن قرار اعتزال الصدر هذه المرة يبدو أنه محسوم، مؤكدين أن ردود الفعل التي نتجت عن القرار، والتي كانت دموية وخطيرة جداً، أعطت مؤشرات أن الوضع في العراق يتجه نحو مزيد من التصادم. وتصاعدت الأحداث مؤخراً باقتحام أنصار الصدر المعتصمين في مبنى البرلمان منذ نحو شهر، إلى أن دخلوا أمس الأول القصر الجمهوري في المنطقة الخضراء، وحدثت مواجهات عسكرية دموية حيث فرضت قيادة القوات المشتركة حظر تجول في العاصمة بغداد بعد سقوط قتلى وجرحى. وكان الصدر قد قال في بيان نشره عبر حسابه الرسمي على موقع تويتر: إنه سيغلق «كافة المؤسسات إلا المرقد الشريف والمتحف الشريف وهيئة تراث آل الصدر الكرام»، وتابع: «الكل في حل مني، وإن مت أو قُتلت فأسألكم الفاتحة والدعاء. وجاء انسحاب الصدر بهذه الطريقة مفاجئاً للجميع، ويعتقد خبراء عراقيون أن الصدر - على ما يبدو - جاد هذه المرة، بعد قراره بإغلاق جميع المنصات المرتبطة بتياره، خصوصاً أن لدى الصدر أتباعاً وجماهير كبيرة، ويوجد قسم من هذا الجمهور - منذ شهر تقريباً - في المنطقة الخضراء رافعين شعارات الإصلاح ومحاربة الفساد وحل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة، وهم الذين اقتحموا مبنى الرئاسة. ويؤكد الخبراء أن الوضع في العراق أصبح غامضاً، خاصة أن وجود الصدر في الساحة السياسية كان صمام أمان وعامل توازن في المحيط السياسي، مؤكدين أن اعتزال الصدر له تداعيات خطيرة، فضلاً أن قراره باعث للقلق بين أوساط التيار نفسه، وفي مستقبل التوازنات السياسية، لا يمكن أن تستمر مقاطعة الصدر للعملية السياسية، كونه ركناً أساسياً في الحراك السياسي. وقد تعمد الكتل السياسية السعي لإعادة الصدر إلى العمل السياسي لتخفيف احتقان الشارع، خاصة أن الوضع الحالي فيه تهديد للسلم الأهلي. ومن المؤكد أن زعماء الإطار التنسيقي سيستغلون اعتزال الصدر، لتشكيل حكومة على مقاس الأطراف الموالية لطهران في العراق. وبحسب مصادر عراقية فإن النظام الإيراني يتابع الوضع عن كثب على ضوء اعتزال الصدر ولم تستبعد المصادر أن تتدخل العناصر التابعة لإيران لكي تنزلق الأزمة السياسية إلى «نزاع مسلح» في ظل امتلاك طرفي النزاع ميليشيات مع كل الإمكانات، خاصة تيار نوري المالكي الذي يعتقد أن الطريق أصبح ممهداً له. ويصف المراقبون الأزمة السياسية الحالية بأنها تمثل واحداً من أكبر التحديات لنظام الحكم في العراق. وكانت الأشهر الماضية قد شهدت جهوداً لإعادة ترتيب الوضع في العراق، وقدم أعضاء مقتدى الصدر الاستقالة من المقاعد التي فازوا بها في انتخابات أكتوبر الماضي. ومنذ قرابة سنة، لم تتمكن الأقطاب السياسية العراقية من الوصول إلى قواسم مشتركة للخروج من الأزمة السياسية. ويطالب مقتدى الصدر بحل البرلمان أولاً ثم الدعوة لإجراء انتخابات مبكرة جديدة فيما يريد خصومه تشكيل الحكومة في البداية. ويعد الصدر المعروف بعمامته السوداء ويحمل لقب «السيد»، أحد أبرز رجال الدين ذوي الثقل السياسي، ويتمتع بنفوذ كبير. كما أنه من أبرز القادة السياسيين القادرين على تحريك الشارع كون تياره يشكل أحد المكونات الرئيسة لشعب العراق. ويدعو الصدر إلى «إصلاح» أوضاع العراق من أعلى هرم السلطة إلى أسفله وإنهاء «الفساد» الذي تعاني منه مؤسسات العراق. دخل الشارع العراقي مرحلة جديدة من التوتر، وسط مخاوف من انزلاق الأوضاع بالبلاد التي تعيش على وقع أزمة حادة منذ إجراء انتخابات تشريعية في أكتوبر 2021 وسيفتح انسحاب الصدر الباب أمام أحزاب أخرى مدعومة من إيران لإحراز تقدم في تشكيل حكومة. وشهد العراق في الماضي مشاحنات سياسية مطولة بين الجماعات المتنافسة بشأن اختيار رئيس ورئيس وزراء جديدين، لكن الجمود الحالي هو الأطول حتى الآن». وترى الكاتبة العراقية نغم القادري أن اعتزال الصدر في العمل السياسي، ما هو إلا ورقة ضغط على الكتل السياسية والمحكمة الاتحادية من أجل الموافقة على طلبه في حل البرلمان. وقالت: إن مقتدى الصدر يملك الأغلبية البرلمانية والشعبية بكل سهولة وأريحية بإمكانه أن يقر القرارات التشريعية والإصلاحية ولا يدعو نوابه إلى الاستقالة.. فيما وصف محللون الاضطرابات السياسية التي أثارتها خطوة الصدر بأنها واحداً من أهم التطورات التي يحتمل أن تزعزع الاستقرار منذ انتخاب الحكومات العراقية. وفي غياب أي أفق للاتفاق، يخشى الكثيرون من الاحتجاجات العنيفة التي تنظمها القاعدة الشعبية الكبيرة للصدر والاشتباكات المحتملة مع الميليشيات المدعومة من إيران خصوصاً أن كلا الجانبين مدججان بالسلاح. وحتى لو أدت الخطوة التي اتخذها الصدر إلى انتخابات جديدة، فإن ذلك لن يغير جذريًا المشاكل المستمرة في النظام السياسي الذي اعتمد، منذ عام 2003، على تقسيم السلطة بين مختلف التجمعات العرقية والطائفية. انسحاب أنصار التيار الصدري المسلحين من ساحات الاعتصام (أ ف ب)