في ختام رسالتك الأَخيرة، سأَلْتَني عن التجديد في الشعر ومساراته، متابعًا سؤَالَك السابق عن التأْثيرات والتأَثُّرات. وهنا جوابي: المناقبيةُ في الأَخلاق لا تَهرَم. والشمسُ قديَمةٌ ولا تتجدَّد. مع ذلك، ليس من يقوم بثورة على الأَخلاق السليمة بحجة أَن موضةَ القِيَم بَطُلَت. وليس من يثور على الشمس بحجة أَنها موضةٌ قديَمةٌ تَجب الثورة عليها باسم العصرنة و"الحداثة". وكما في الشمس والقِيَم والأَخلاق، كذلك في الفنّ: ليس من يقول إِن الإِبداع الذي أَتى به بيتهوفن وموزار بَطُلَتْ موضَتُهُ ويَجب رفضُهُ واعتمادُ ال"هارد ميوزيك" مكانه. لا يَجوز نُكران الأُصول باسم الرفض، ولا رفض التراث باسم التجديد، ولا قتلُ الثوابت باسم الثورة والتغيير. لا يُثار على دُربةٍ وراءها خبرة، تمامًا كما في الطبّ: لا يُثار باسم التجدُّد على طريقةٍ ذاتِ أُصولٍ وقواعد علميّة. اتّباعُ الأُصول يولّد الجمال. هكذا الشعر: إِذا افتقَد الأُصول فيه لا يعودُ شِعرًا، بل يُمسي هذَرًا وهذيانًا. فما القول، عندئذٍ، برفض الشمسِ نظامَها، والبحرِ حركةَ المدّ والجَزر فيه؟ وما القول، استطرادًا، برفض قواعدِ اللغةِ والصرفِ والنحو، باسم التغيير و"الحداثة"؟ العاملون على اسم "الحداثة" الشعرية (وكَم من تزويرٍ كَرنَفالِيٍّ رخيصٍ يُرتَكَب بِاسم الحداثة الحقيقية، وما أنْضَرَها!) يَجدون تناقضًا في أَن نكون أَبناء القرن الحادي والعشرين، عصرِ الفضائيات والإِنترنِت والعَولَمة و"القرية الكونية الواحدة"، ونَلبَس في شعرنا عباءةَ الخليل بن أَحمد ببحورها وأَوزانِها وقوافيها وقواعد عروضها. يعني كَمَن يتنطّح اليوم من الموسيقيين، ويرى تناقضًا في أَن يعيش الموسيقيّ اليوم في عصر "البلوز" و"الديسكو" و"الموسيقى الإِلكترونية"، ويعتمدَ سِجِلَّ النوتات السبع التي اشتغل عليها باخ وبيتهوفن وتشايكوفسكي. لا أَقول لك هذا كي أَتَمسَّك بالشكل العموديّ وبالوزن وبالقافية، شروطًا للشعر. لكنّ الحداثةَ ليست الخروجَ على نغميّة الإِيقاع، تمامًا كما ليس الشعر في مجرد "قرض" قصائدَ "عصماء"، أَو "نظمِه" تركيبَ وزن وقافية. الشرط الأَساسيّ هو الإيقاع. ثمة نصوص نثرية رائعة ليست شعرًا ذا وزن تقليديّ ولا قافية، ومع هذا هي في قلب الشعر العالِي. إِذا كانت الومضةُ الشِّعريةُ روحَ القصيدة، فالإِيقاعُ جسدُها. وهو ضمن تكوين الدماغ البشريّ في الأَوَّليات النَغَمية (أَهَميّة الدماغ ليست في حجمه بل في تركيبه). الشعر ظاهرةٌ عقليةٌ وليست صوتيةً فقط. والعمارةُ الشعريةُ لا تقوم إِلَّا بِهندسةٍ متينةٍ يُشرف عليها العقل. هكذا شِعرنا لا يقوم إِلَّا على الوفاء لشِعريّتنا (فنّنا الشِّعريّ) وليس أَيُّ شكلٍ قادرًا على احتواء قصيدتنا وملاءَمتها والانسجام مع هويّتها وانسياقها وانسيابِها. التجريبية ليست مُحرَّمة. على العكس: مُحرَّمٌ تَحريمُها. فالعالِم في المختبَر- وصولًا إِلى اكتشافاتٍ جديدة- لا يقوم بتجاربه من مادّةٍ مبتَكَرَة مرتَجَلَة بل مِن موادَّ وفَّرَها له مَن سبقوه وبلغوا بها خُلاصات العِلْم. هكذا المبدع لا يعود إِلى ذاته وحدها مكتفيًا بِها (بل لا يسمح لنفسه بذلك) وإِنّما يعود إِلى المبدعين الذين سبقوه: يفيْءُ إِليهم، يكتشف كيف كلُّ واحدٍ منهم اعتَمَدَ تقْنيةً هي حصيلةُ اطّلاعه على مَن سبقوه في الشرق والغرب. والشاعرُ الشاعر، مَن استطاع أَن يزاوجَ بين ما اهتدى هو إِليه من الفن، وما قَبَسَه نابضًا من التراث الحي (بتقْنيته لا بمضمونه جامدًا) فيغنَم من الخبرات الهائلة والدُّرَب المجمّعة جيلًا بعد جيل. بذلك، تضمن أَنك على الطريق القويم، فتُفيد من تجارب سواك وخبرتِهم الأَدبية شعرًا ونثرًا، وتكون تلك لكَ مصابيحَ هداية تقودك إِلى نتاجك الخاص محمَّلًا بمخزون ثقافي أَدبي ناضج. عندئذ تكون في قلب الحداثة ونبْض العصر.