زيارةُ الرئيس الأَميركي جوزف بايدن المملكةَ العربية السعودية مؤخراً، يَفتح الحديث عن هذه المؤَسسة الدستورية الأُولى في الولاياتالمتحدة الأَميركية، والهيئة التشريعية الرئيسة في نظام سياسي ذي جَناحين: مجلس الشيوخ ومجلس النواب. غير أَنني أُشيح هنا عن الشق الإِداري والتشريعي والسياسي، لأُطْلِعَ قراء "الرياض الثقافي" على الكاپيتول، وهو مبنى الكونغرس الذي، هو أَيضًا، لا أَتناول جلساتِه بل أَكشف بعضَ ما فيه من كنوز ثقافية ثمينة وأَعمال فنية نادرة، تجسّد ثرواتٍ للمبنى عمْرُها من مطالع تكوين الأُمة الأَميركية: لوحات زيتية عملاقة، تماثيل برونزية ورخامية يروي مجموعُها مراحل من نضال الشعب الأَميركي لبسْط نظام ديمقراطي تنتهجه الولاياتالمتحدة. في التعريف القديم: مبنى الكاپيتول يعني هيكل جوپيتر على تلة روما. وفي التعريف المعاصر: هو مبنى الكونغرس الأَميركي على تلَّة مُشْرفة من واشنطن العاصمة، تمَّ تدشينُه سنة 1800، ويضمُّ نحو 300 تحفة أَميركية تؤَرِّخ مراحل متعاقبة من تاريخ البلاد. فماذا عن بعض هذه الروائع؟ المؤسس جورج واشنطن من أَبرز الأَعمال في مبنى الكاپيتول: لوحةُ "التوقيع على الدستور"، رسَمَها سنة 1940 الأَميركي هاوُرد تشاندلر كريستي (1872-1952) بتكليف من إِدارة الكونغرس، احتفاءً بمرور 150 سنة على هذا الحَدَث التاريخي الذي يجسِّد تاريخ الأُمَّة، والذي جرى صباحَ الإِثنين 17 سبتمبر 1787 على منبر "قاعة الاستقلال" في مدينة فيلادلفيا (ولاية پنسيلفانيا). وفي المبنى أَعمال فنية أُخرى تتسلسل تاريخيًّا، شاهدة على مراحل الولاياتالمتحدة منذ مطلع سنوات اكتشافها في غروب القرن الخامس عشر (1492م.)، وما كان للوافدين إِليها من صدامات قاسية تعاملوا فيها بفظاظة مع سكَّان البلاد الأَصليين (الهنود). من أَهمِّ هذه الأَعمال حجمًا وقيمةً: جدارية كبرى في السقف تمثِّل جورج واشنطن (1732-1799) واضع الدستور الأَميركي وأَول رئيس على الولاياتالمتحدة (1789-1797). عنوان الجدارية "صعود واشنطن إِلى السماء"، وهي أَكبر لوحات مبنى الكاپيتول، توحي في تقْنيتها بأُسلوب ميكالانجلو أَو رافاييل (من عصر النهضة الإِيطالية)، لكنها في الواقع من نتاج القرن التاسع عشر: تعلو عن الأَرض نحو 55 مترًا، تتمدَّد وسْعَ القُبّة على نحو 440 مترًا مربَّعًا، يبدو فيها جورج واشنطن بين شخصَين يرمزان إِلى الحرية والنصر، وحولهم 13 شخصًا يرمزون إِلى أَول 13 ولاية أَميركية معلَنَة. أَبدعَ هذه الجداريةَ سنة 1865 الرسامُ الأَميركي الإِيطالي الأَصل كونْسْتانتينو بروميدي (روما 1805-واشنطن 1880) وله غيرها أَكثر من جدارية في مبنى الكاپيتول. اكتشاف الغرب الأَميركي في لوحة أُخرى: "پوكاهونتاس"، نرى تلك الأَميرة سيدة قبيلة پوهاتان (من سكَّان أَميركا الأَصليين)، أَسَرها المستعمرون الإِنكليز رهينةً إِبَّان سيطرتهم على ولاية ڤِرجينيا سنة 1613. ظلَّت في الأَسر أَشهرًا قاهرة مُرَّة، وحين أَطلقوها تَوَلَّه بها شابٌّ ثريٌّ من مُزارعي التبغ اسمه جون رولْف (18 سنة) فتزوَّجها سنة 1614. تناول قصتَها رسامون كُثر ظهرت في لوحاتهم، بينها هذه اللوحة التي كانت إِدارةُ الكونغرس كلَّفت وضعَها سنة 1837 الرسام الأَميركي جون غادْسْبي تشاپمان (1808-1889) فعملَ عليها ثلاث سنوات متواصلة حتى أَنجزها سنة 1840 واتخذت مكانها في صدر قاعة القُبة المستديرة. فوق السُلَّم الغربيّ من الكاپيتول لوحة "حمْلة اكتشاف الغرب الأَميركي" وضَعها سنة 1862 الرسام الأَميركي الأَلماني الأَصل إِيمانويل لوتز (1816-1868) بقياس 6 x 10م.، وفيها نساء وأَولاد ورجال بقبَّعات صوفية سميكة، وعرباتُ خيل مقفلةٌ تَجرُّها أَحصنة وثيران، وجُموعُ متِّجهةٌ غربًا صوب النصر في تلك الحملة. على أَطراف اللوحة صُوَر أَعلامٍ ومراحل من تاريخ اكتشاف أَميركا. الإِفريز الدائري طوال نحو قرن كامل (1859-1953) تعاقَب رسامون كثيرون على ملْءِ الإِفريز الدائري العالي في القاعة الكبرى، بلوحات تَروي تاريخَ أَميركا وفق تسلسله الزمني، بينها مثلًا: لوحةُ الرسام كونْسْتانتينو بروميدي (1860) "وصول كريستوف كولومبُس إِلى أَرض أَميركا سنة 1492" ولوحة "بدايات الطيران سنة 1903" وضعها سنة 1953 الأَميركي أَلِن كوكس (1896-1982)، الذي كلَّفته إِدارةُ الكاپيتول سنة 1952 رسْمَ الإِفريز الذي كان بروميدي بدأَ يعمل عليه لكنه توفي سنة 1880 فتوقَّف من يومها العمل على إِكمال رُسوم الإِفريز. هكذا هذه الأَعمال الفنية (نحو 300 لوحة وتمثال) تتأَلَّقُ ساطعةَ الحضور في أَروقة الكاپيتول وصالاته وممرَّاته وقُبَّته، مؤَرِّخةً تاريخ الأُمَّة الأَميركية بكنوز فنونها. بعض تلك الأَعمال معلَّقٌ في قاعة الاجتماعات الوسيعة، فوق مقاعد النواب والشيوخ، كأَنها نوافذ على تاريخ أُمَّتهم تذكِّرهم يوميًّا بأَزهى لحظات انتصاراتها، وتلْفتُهم إِلى أَنهم مسؤُولون عن الحفاظ على تاريخ بلادهم ونهضته. فرغم ما شابَ تاريخ الولاياتالمتحدة من ظُلامات، ليس في صالات الكاپيتول ظَلام بل شروق الفن بشمس دائمة على تاريخ شعوب متفرِّقة توافدت إِلى بلاد واسعة، فتجمَّعت وتحاربت ثم توحَّدت في ولايات متحدة عمَّرت حاضر الأُمة الأَميركية ورسَّخت فيها الديمقراطية منذ نيِّفٍ وقرنين حتى اليوم.