في رسالتكَ التي وصلَتْني أَمس، تساؤُل مُحقٌّ يُقلقُك: "أَيُّ المواضيع يَصلحُ أَن يكون في الشعر، وأَيُّها لا يمكن أَن يكون؟". جوابي الفوريّ أَن الأَساس ليس الموضوع بل الشاعر الذي يتولَّى صياغة هذا الموضوع شعرًا. وكما صرتَ تعرف رأْيي في هذا الأَمر، وأُكرِّره لكَ هنا: "ليست الفرادة في ما يكتب الشاعر بل كيف يعالج ما يكتبه". فرُبَّ موضوع عادي يتولَّاه شاعر متمكِّن، يجعله مرفوعًا على راية الشعر. ورُبَّ موضوعٍ كبيرٍ مُهمٍّ يتولَّاه شاعر عاديّ أَو نَظَّامٌ يدَّعي الشعر، فيُميِّع الموضوع حتى ليخرج من نظمه أَقلَّ من عاديّ. هل من مواضيع مُميَّزة لشِعرنا دون سواه؟ طبعًا لا. وعدا استثناءات غير رئيسة، عالَج شِعرُنا مواضيعَ هي هي المطروحة، في شكل عامّ، أَمام جَميع الشُّعراء. فالعاطفةُ الإِنسانية (غضبُها، رضاها، حُزنُها والفرح، رماديُّها والمُلوَّن) تتفاوتُ تعبيريًّا لا كينونيًّا. والمرأَةُ امرأَةٌ في أَينما كان، يتفاوت الإِحساسُ إِزاءها في التعبير لَها وليس في جوهرها. ومن ناحية أُخرى: الوطن هو الوطن. يبقى التمايز بين شاعر وآخَر في المدى الذي يعبُره الشاعر حيثما يعتبر دخوله مؤَاتيًا قناعاته وموافقًا رؤْيته. وإِذا كان التعبير غير جدَليٍّ في التعبير عن العاطفة الإِنسانية أَو تِجاه المرأَة، فالموضوع الوطنِي ما زال جدَليًّا، لأَن معظم شِعرنا الوطنيّ ما زال يُسَيِّس الوطن (يُدخله في السياسة) ولا يُمَلْحِمُه (لا يَرفعه إِلى مستوى الملحمة الشعرية). الوطن، في الشعر العظيم، يَخرج ملحمةً أَو رُموزًا أَو مسافةً عبقريةً يرسُمُها الشاعر، فيما أَكثر شِعرِنا الوطني (لمعظم شعرائنا) استهلاكيٌّ خطابيٌّ منبريٌّ يفتقد الكثير من الرؤْيا لأَنه ارتَمى في حمأَة السياسة الآنيَّة المتقلِّبة. هكذا تسيَّس الشعر. صار الشاعر بوقًا عند حاكم أَو بوقًا ضدّ حاكم آخر. وبذلك سقط إِلى عصبيّةٍ محدودة تعيدنا إِلى انحطاط جديد، إِذ لَم يَعُد الشعر مختلفًا عن أَيِّ كلامٍ حَماسيٍّ أَو منبَرِيٍّ أَو خطابِيٍّ نقرأُه كلَّ يوم في الصحف. والآنِيُّ، بطبيعته، نقيضُ الخالد. وكذا الشعر المُسيَّسُ: آنِيٌّ لا يَخلد. ومتى القصيدةُ غَرِقَت في الالتزام السياسي، غرِقَ شاعرُها في رمال الطارئِ المتحركة عوضَ أَن يتخطّى الحدَث إِلى أُحدوثةٍ رؤْيوية. فالشعر ابنُ الثوابت لا المتغيِّرات، و"تسييسُ" القصيدة يتنافى تَمامًا ونُخبويّتها المميّزة. الشعر لا يجب أَن يكون مقولةً إِيديولوجيّة. للإِيديولوجيّاتِ النثرُ وافتتاحياتُ الصحف. الشعرُ الخالِد على الزمان، ليسَ أَبدًا زيتًا لبندقيةِ المُقاتل، ولا أَرُزًّا لطلعة العروس، ولا زهرًا لإِكليل الفقيد، ولا شرائطَ ملوَّنةً لزينة العيد. الشِّعر حالةٌ تعكسُ حدثًا وليس العكس. من هنا ضرورةُ أَن تبقى مسافةٌ لازمةٌ بين الشاعر والحدَث، أَو بينه وبين الموضوع. وإِذا الشاعر لا يراعي هذه المسافة، يُعرِّض ذاته وقصيدتَه للقفز إِلى نار الحدَث فيحترق فيها، ويُمسي شِعرُه تقريريًّا سرديًّا مسطَّحًا مباشِرًا، وتلك ليست من خصائص الشعر العظيم. هل من نقيصة إِذا غاب الشاعر عن حدَث سياسي كبير طارئٍ في بلاده؟ طبعًا لا. وليس من ضير إِذا تجنَّب الشاعر الدخول إِلى حدث سياسي في بلاده تتناوله الصحف وأَلْسنة العامَّة. والأَمثلة على ذلك كثيرة جدًّا، وخصوصًا في الآداب العالَمية. فهذا شاعر فرنسا الخالد پول ڤاليري عاش حربَين متتاليَتَين (1914 و1939) ولم يكتب قصيدة "سياسية" واحدة، بل بقي يعالج في شعره مواضيع جمالية وفكرية لا علاقة لها بالحدَث السياسي. ولَم يَحُلْ ذلك دون كونِهِ أَحد أَكبر شعراء عصره. وأَعرف أَكثر من شاعر عربيّ بلغَت به حماستُه أَن انتفضَ لِحدَث سياسي، فكتب فيه قصيدة أَو أَكثر، حتى إِذا انقضى الحدَث وتغيَّرت ظروفُه ومواقعُ أَصحابه، سقطَت القصيدة في ظَرفها المحدود وخرجَت من إِمكان خلودها. قيمة الشعر أَن يكون رؤْيويًّا يأْتي من المستقبل، لا أَن يكون صدى الماضي يولد معه وينقضي بانقضائه.