قرأت كتاب "التجربة: تفاعلات الثقافة والسياسة والإعلام" للدكتور عبدالعزيز محيي الدين خوجة (اللقب العلمي لم يكن موجوداً على غلاف الكتاب، وهذه صفة من صفات الكبار، الذين يعتبرون اللقب محصوراً بما أخذ فيه)، قرأت هذا الكتاب وتمليت فيه كثيراً بعد تردد طويل قبل الإقبال على قراءته، معتقداً أنه سيرة علمية أو عملية جافة، أضيق بها ويضيق بها كثير من القراء، خاصة إذا كانوا فضوليين مثلي ممن يقرؤون السير الذاتية والدراسات الاجتماعية والإنسانية للمتعة، لكنني عندما شرعت في القراءة وجدتني أمام سيرة كتبت بأسلوب باذخ فيها من المعلومات والوقائع والسير العامة والخاصة الكثير، وكتبت بأسلوب فيه مزج عجيب بين نَفَسَ السيرة ونَفَسَ الرواية، أسلوب فيه كثير من رقة الشعر وشفافيته وصدقه مع معلومات حول المهام العلمية والعملية وأخرى عن الأسرة والنشأة. ومن تعلقي بهذه السيرة، كنت وأنا أقلب الكتاب واسترجع بعض فصوله أعيده إلى الرف، ثم أعود إليه. في هذا الكتاب أنت أمام شاعر وسفير في ثلاث دول ثم وزير للثقافة والإعلام قدم خلال المدة التي قضاها في هذه الوزارة العديد من المنجزات الإدارية والإعلامية والثقافية، وبعد الوزارة عين سفيراً في المملكة المغربية، وكانت هذه السفارة أشبه بمسك الختام، لما بين بلادنا وبين هذا البلد الشقيق من علاقات وثيقة ومن جو ومناخ ثقافي ذي حيوية فائقة. وقبل هذه المسيرة العلمية والعملية الحافلة وبعدها، يظل الدكتور عبدالعزيز محيي الدين خوجة شاعراً مرهف الحس، أصدر عديد من الدواوين، كتبت عنها دراسات ورسائل علمية وبعضها أديت بأصوات متمكنة. ومن أطرف المواقف التي تعرض لها معاليه عندما عين سفيراً لما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي، فقد حصل قبل تقديم أوراق اعتماده تغيراً شاملاً سريعاً فيما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي كادت تصحبه اضطرابات، وقد ترتب على ذلك التغيير، تغيير تسمية هذه الدولة، ما استدعى منه العودة إلى المملكة لتقديم أوراق اعتماد جديدة كسفير لدى جمهورية روسيا الاتحادية بدلاً من الاتحاد السوفياتي! وكان معاليه في كافة المناصب التي تولاها بشوش الوجه رقيق العبارة، أو لنقل إنه كان يوصل عبارته مهما كانت قاسية أو قوية بطريقة دبلوماسية رقيقة، وفوق هذا وذاك هو رجل معادلات كيميائية خرج من محاضراته وأبحاثه ومختبره، ليكون في وجه الناس متحدثاً ومحاوراً وموجهاً، وموصلاً لتعليمات وقرارات وتوجيهات ولاة الأمر في بلادنا. رجل بهذه الصفات والأوسمة توقعت أن تكون سيرته حافلة بلفظ الأنا، أو بنرجسية عهدناها في عديد من السير الذاتية، التي أقبلت على بعضها بشوق وعلى بعضها الآخر باحثاً عن معلومة أو سيرة غمُضت علي، خصوصاً إذا كانت لمبدع شق صيته الآفاق أو سياسي أو فنان أو اقتصادي، تعتور مفاصل حياته علامات استفهام. كتاب "التجربة" أنجز بلغة جميلة شفافة، وعبارات رشيقة خالية من التقعر والغموض، تَقرأ فصوله، فصلاً في إثر فصل، وكأنك تَقرأ رواية أجَيال، من تلك التي أبدعها نجيب محفوظ ومحمد ديب وتوماس مان، أو تشاهد فيلماً تسجيلياً يعرض للحياة في إحياء مكة والطائف وفي دول ذات معالم وحضارات حفلت بوقائع وأحداث مفصلية على مدار تاريخها العريق مثل: روسيا وتركيا ولبنان والمغرب. المبدع والمتحدث والمحلل وحامل الكاميرا في هذه التجربة الثرية، هو عبدالعزيز محيي الدين خوجة، بلغة الشاعر والوزير والدبلوماسي.