صدر حديثاً كتاب "كمال جنبلاط: الرجل والأسطورة" للمؤلف الروسي إيغور تيموفييف، بعد أكثر من عقد على العمل فيه، بمبادرة من "الرفيق السوفياتي" وتبنٍ "رسمي" من وليد جنبلاط. وما بين البداية وبين الصدور، انهار الاتحاد السوفياتي وازدادت حماسة جنبلاط وتيموفييف للكتاب، وتغير الناشر: من "دار التقدم - موسكو" الى "دار النهار - بيروت". ويطرح صدور الكتاب في بيروت، أسئلة كثيرة، عن البداية والجهة المكلِّفة، وعن الرواية والمعلومات وأسلوب العمل ومنهجية الكتابة، ومسار الكتاب والمداخلات والرسائل السياسية والجهة الحاضنة. ويأتي هذا الحوار مع المؤلف صاحب عدد من الأعمال الأكاديمية التي تتناول أعلاماً عرباً من القرون الوسطى، والناشط في الصحافة العربية انطلاقاً من بلاده، بعدما عمل طويلاً مراسلاً في القاهرة للصحافة السوفياتية، ليلقي الضوء على خلفيات الكتاب ووظائفه. وهنا نص الحوار. لما الكتاب، خصوصاً أن المقابلات التي أجريتها، مع اصدقاء كمال جنبلاط توقفت في العام 1991 لتستأنف مطلع العام 1999 باستثناء مقابلة مع كميل أبو صوان في باريس 1995، مع خصوم جنبلاط، ألهذا علاقة بظروف وتوجهات سياسية لبنانية واقليمية؟ - لا شيء يجري من دون سياسة. لكني أقول ان التوقف الذي تشير اليه، حصل فعلاً، وأسبابه تتعلق بي. والاستئناف حدث بمبادرة منك أيضاً؟ - لا شك في أن المشروع بقي قائماً بالنسبة إليّ والى وليد جنبلاط، على حد سواء. فكمال جنبلاط شخصية روائية ثرية جداً. أليس مستغرباً أن يبادر صحافي وباحث روسي، الآن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، الى تأليف كتاب هو ثمرة جهود استمرت أعواماً، عن كمال جنبلاط، صديق النظام القديم المنهار؟ - أوافقك الرأي اني من طراز قديم. لكن اذا ما عرفت كيف وجّهت الى الكتابة عن كمال جنبلاط، وإذا ما التفتت إلى شخصيته وثرائها الروائي الفلسفي والسياسي والروحي، لعذرتني. من هي الجهة التي كلفتك مهمة الكتابة عن كمال جنبلاط، ولا سيما أن مشروعك بدأ في ظل الاتحاد السوفياتي؟ - اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي هي الجهة التي أشارت اليَّ إعداد كتاب عن صديق الاتحاد السوفياتي كمال جنبلاط. فقد سألني مرة أحد الأصدقاء أعضاء اللجنة المركزية: لماذا تبحث في القرون الوسطى عن شخصياتك ولا تكتب إلا عمن عاشوا في تلك الحقبة التاريخية، ولا تتعرض للحاضر ولشخصياته وسياساته؟ وشعرت من ذاك السؤال انه يسعى الى تقريبي من النظام السوفياتي الذي حاولت ألا أتورط بموالاته ونصرته. وعلى رغم ذلك دفعني تطفلي الى الاصغاء له حتى النهاية. وعندها عرض عليَّ أن أعد كتاباً عن كمال جنبلاط، أو عن الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر. ولماذا اخترت جنبلاط، خصوصاً أنك كنت مراسلاً لصحيفة "كومسومولسكيا برافدا" في القاهرة؟ - لا أدري. ثمة قدر غامض ساقني الى البحث في شخصية كمال جنبلاط وتاريخه وسيرته وفلسفته. قدر ما هو هذا القدر، هل التقيت بكمال جنبلاط يوماً؟ - لم ألتقِ به. حصل ما يشبه اللقاء الرمزي. فعندما استشهد كنت أنا في نيقوسيا، وتحديداً في مطعم "كراون اوتيل" أكتب تحقيقاً عن الشباب اللبنانيين الهاربين بكثافة من الحرب المستمرة منذ عامين تقريباً. والمفارقة ان الشباب اللبنانيين في ذاك الأوتيل كانوا كلهم من المسيحيين الموالين للجبهة اللبنانية المعادية لكمال جنبلاط وحركته الوطنية. وفجأة اندفع جو صاخب هو مزيج من الفرح والحيرة والقلق على المستقبل من مجهول في آن واحد. سارعت الى الاستفسار لأعرف ان كمال جنبلاط قد اغتيل. والتحقيق الصحافي عن الشباب اللبنانيين هل ما زلت تحتفظ بنسخة من الصحيفة التي تضمنته؟ - لم ينشر التحقيق. فعبقرية الاعلام والاعلاميين السوفيات رأت ان اولئك الشباب من اعداء الحركة الوطنية الحليفة للنظام. وأعتقد ان النص بخط يدي ما زال في حوزتي، في مكان ما. والكتابة عن جمال عبدالناصر هل ما زالت على جدول أعمالك؟ - حقيقة لا أعرف. فكما قلت منذ قليل: اني انتمي الى "موضة" قديمة، وعشت في مصر، ومتعاطف مع عبدالناصر، وأعتقد انه بطل من أبطال الاسطورة العربية في القرن العشرين. لكن ذلك لا يعتبر رداً على سؤالك. إذ لا أحسب أنه من الضروري أن أكتب عن شخصية عالمية. فالكاتب يجب أن يهتم بالانسان وتكوينه الثقافي والنفسي وبحكايته. وأنا كنت ما بين عامي 1967 و1972 أعمل مترجماً في الجيش المصري، رافقت كبار الخبراء العسكريين السوفيات الذين خدموا في مصر آنذاك، والتقيت بالرئيس الراحل أنور السادات، وتعرفت الى كبار الضباط المصريين وما زالوا اصدقاء لي. الى هذا كنت شاهداً على حرب 1973. وأزعم اني حامل أسرار تخص هذه المنطقة وتلك الحقبة المفصلية والغنية والعزيزة على قلبي. بطل روائي لنعد الى كمال جنبلاط والكتاب. وصفته بالشخصية الغنية نفسياً وثقافياً وسياسياً وسيرياً، اتعتقده، من حسك الكتابي، بطلاً روائياً؟ - من دون أدنى شك. انه بطل روائي بامتياز. كما في شخصيته كذلك في سيرته وفكره وممارسته السياسية. هو انسان كما يجب أن يكون الانسان. فالانسان ربما يتسامح مع نفسه ومع غيره في أمور صغيرة، لكن كمال جنبلاط لم يكن ليسمح لنفسه بأي شيء يتناقض أو يتنافى مع نظرته النظيفة للعالم، سواء كان ذلك صغيراً أم كبيراً. أهذه الصفات مكتسبة أم ماذا؟ - ولد انساناً غير عادي. أترابه وزملاؤه في مدرسة عينطورة كانوا يحسبونه زعيماً. فالنزاهة الخلقية وجدت معه ومكتسبة في آن واحد. كذلك هو حامل ثقافة سياسية جديدة من أهم قوامها سعيه الى مطابقة السياسة بالقيم وعدم ممارسة السياسة من دون قيم، وإذا ما تناقض قرار سياسي يريد اتخاذه مع قيمه السياسية تراه آثر القيم على القرار. وذاك مكتسب بتأثير من المهاتما غاندي. وهنا سبب مأساته. فمن خلال سيرته، وخصوصاً في أيامه الأخيرة، يبدو لي كان يمشي الى موته بما هو خلاص وحسم للتناقضات؟ - الموت بالنسبة الى كمال جنبلاط هو خروج من قميص الجسد، انعتاق. وكثيراً ما أحسست أنه مشى الى موته، لأنه لم يقدر ان يتبع مبادئه، أو بالأحرى ان يطبقها. فهو كان يكره العنف غير انه وجد نفسه قائداً لجبهة عسكرية. وكتب له العميد ريمون اده من باريس ودعاه الى اعلان حكومة المنفى في باريس، لكنه رفض. وهذا ما يؤكد احساسي أنه كان يبحث عن الموت "الأوتوماتيكي" للخلاص. هذه الأمور وغيرها ما جعلني استمر في جمع روايته نحو عشرة أعوام. وقد وُجِّه اليَّ نقد بسبب المدة الطويلة تلك. ألا تحسبها مدة طويلة حقاً؟ - بالتأكيد هي طويلة: ثلاثة عشر عاماً. غير ان العمل توقف خلالها، ولم أواصله من اليوم الأول حتى الأخير. تعديل اضطراري وما الذي أوقف العمل؟ - انهيار الاتحاد السوفياتي تسبب بذلك. وهنا أفضل أن أروي انطلاقتي في المشروع لنصل الى التوقف ثم الى الانتهاء. بعد موافقتي على الكتابة عن كمال جنبلاط، وكنا في زمن "بيريسترويكا" والانفتاح وحرية التعبير، كما قال لي عضو اللجنة المركزية، صديقي، رُتب لقاء ضمّني ووليد جنبلاط الذي رحب بالفكرة، وتطوع عدد من قادة الحزب التقدمي الاشتراكي لتأمين كتب تعرفني الى كمال جنبلاط. وفجأة جاءتني دعوة الى بيروت من وليد جنبلاط الذي رأى صعوبة التعرف الى جوانب شخصية كمال جنبلاط وفكره وسيرته كلها في الاتحاد السوفياتي. وفتح لي الأبواب ووفر الامكانات اللازمة، من الاقامة في المختارة الى دخول المكتبات، وخصوصاً المكتبة الخاصة لكمال جنبلاط والمكتبة الوطنية في بعقلين، الى الاطلاع على وثائق خاصة وغير متداولة أو معروفة، الى عقد اللقاءات مع أبناء القرى وأتراب كمال جنبلاط وأصدقائه، ومع معاصريه من السياسيين رفاقاً كانوا أم خصوماً، والمروحة واسعة، من محسن ابراهيم وجورج حاوي وخليل احمد خليل وحليم بو فياض ومحسن دلول الى كريم بقردوني مروراً بغسان تويني وانطوان بارود. اضافة الى زيارة المناطق والقرى التي كان يتردد عليها كمال جنبلاط، ابتداء من عينطورة. هكذا تعرفت الى المادة، ولما تلمستها اندلع حريق في داخلي، حريق الكاتب عندما يضع يده على كنز موضوعه. شممت رائحة مغرية. انفعلت وأضيئت أمامي جوانب مختلفة من شخصية كمال جنبلاط: التقشف، الباطنية الشخصية والفلسفية، الاهتمام بالهند، ومعرفته المسيحية، حبه للمعرفة، نهمه على القراءة وسعة اطلاعه على الفلسفات والأديان والسياسة، التزامه قيماً قاسية على الذات، حلمه بالانصهار الانساني... انه حقاً شخصية ثرية تفتح الأفق للكتابة. بطل ادبي، ومن أكثر الشخصيات في الوطن العربي اغراءً للكتابة الروائية. بدأت العمل مقيماً في المختارة. وقابلت السيدة مي جنبلاط وأجريت أحاديث خاصة مع الكثير ممن عرفوه أو سمعوا عنه. الى ان انهار الاتحاد السوفياتي وتغيّر كل شيء. فعشت مدة من الوقت حال تشاؤم وانشغال بأمور أخرى. أصابتني صدمة نفسية، وتوجب على ادارة شؤون اسرتي ووالديَّ اللذين كانا يعيشان أيام الاتحاد السوفياتي الأخيرة في جمهورية جورجيا التي استقلت، مع انهيار الاتحاد، ليتحول والداي اجنبيين بعدما كانا مواطنين سوفياتيين. فعملت على عودتهما الى وطنهما روسيا. هذا أولاً، وثانياً: فإن سلسلة "أعلام" التي كان كتاب "كمال جنبلاط" سيصدر ضمنها، باللغة الروسية، فقدت هويتها وجمهورها وراعيها. أما ثالثاً: كان مخطط الكتاب يتمحور حول نقاط اللقاء ما بين الاتحاد السوفياتي وبين كمال جنبلاط. فاضطررت الى اجراء تعديلات في هذا الخصوص، ولا سيما اني لا أريد أن أخرج بكتاب سطحي لا يكشف حقيقة شخصية كمال جنبلاط بكامل حجمها وتنوعها. ولهذا رميت المخطوط الأول للكتاب. كأنك بدأت من جديد؟ - فعلاً بدأت من جديد. دفنت كتابي الأول، واستغنيت عنه. ورحت أجري مقابلات جديدة. وكنت أقصد لبنان من فترة الى اخرى. خصوم جنبلاط أفي هذه المرحلة قابلت خصوم كمال جنبلاط؟ - نعم، لكني قابلت معهم، في الوقت نفسه، رفاقه وأعوانه وأصدقاءه: العميد ريمون اده قصدته الى باريس، كذلك سفير لبنان في الأونيسكو كميل أبو صوان، وغيرهما. والى أي مدى تشعر أنك أتحت الفرصة لرأي الخصوم؟ - حاولت قدر الإمكان. وأين تدخل وليد جنبلاط؟ - مرة سألته: ما هو تصورك عن الكتاب؟ فأجابني: ليكن موضوعياً لأنه للتاريخ. وأعرف الآن ان نقاطاً وردت في الكتاب ولا يوافق وليد جنبلاط عليها، غير انه لم يتوقف عندها ولم يتطرق لها، ولم يطلب إليَّ تعديلها لأنه لم يراقب الكتاب. وبعد صدور الكتاب أعرب عن تقديره للجهود وللكتاب. استبعاد وحكم غيابي ولماذا تستبعد بعض الجهات، الفلسطينيين على سبيل المثال، وتلغي صوتهم، وكأنهم انقرضوا، ولا سيما انك توجه اليهم تهمة نقل معلومات كاذبة عن الوضع السوري الى كمال جنبلاط الذي صدقها وراهن عليها؟ - لأنهم غير موجودين الآن في لبنان؟ هذه مزحة تصدر عن مؤلف كتاب بهذه الأهمية! - اعتمدت، في هذا الموضوع، رفاق كمال جنبلاط مصدراً. واعتمدت كريم بقردوني مصدراً لرأي الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد بكمال جنبلاط ورفضه ضمّهُ، الى جانب بيار الجميل، الى أول حكومة في عهد الرئيس الياس سركيس؟ - ذلك لأن كريم بقردوني كان أحد مستشاري سركيس وألّف كتاباً هو "السلام المفقود" ضمّنه تلك المعلومات. انحياز أعرف ان مهمتك كانت صعبة. وقارئ الكتاب يحس بانحيازك إلى كمال جنبلاط؟ - اذا كنت منحازاً لكمال جنبلاط ومعجباً به إلا اني لم أنقل كل الأساطير المُحبّة. واذا ما وردت في الكتاب فبعد فحص. مثلاً يقال ان كمال جنبلاط عندما كان صغيراً في المدرسة التقى في الشارع برجل مسن طويل القامة، ضخم، فقير وقدماه حافيتان، فما كان من الولد الصغير إلا ان خلع حذاءه الصغير ووهبه إلى الرجل الكبير. أما أنا فتساءلت ماذا ينفع الحذاء الصغير لرجل ضخم، ومقاس حذائه يفوق مقاس حذاء الولد الحساس والشهم. لكنك منحاز الى كمال جنبلاط وعائلته وتلتفت الى الايجابي و"الاسطوري" من الشخصيات والسير؟ - واجهت أساطير على أنواعها، من هنا وهناك، وكلها تبالغ، كي لا نقول تكذب، ولذلك وضعت نصب عيني مهمة أن أكتب للبنان واللبنانيين عن كمال جنبلاط كما رأيته وليس كما كان. كي أتجنب الوقوع في شرك تأريخ الأساطير، أو أن أكتب أسطورة جديدة. فكتبت كما رأيته أنا مجرداً من الأساطير والخرافات، كمال جنبلاط الانسان. أما عن الأسطورة والمبالغة فإنهما من صفات صورة كمال جنبلاط عند الفلاح في الجبل أو عند محازب لجنبلاط أو لضده... فأنا كنت أقرأ النصوص، ولم أجمع الأساطير. كتب مرة الكاتب الروسي يوري تينانوف: "الرواية الحقيقية تبدأ حيث تنتهي الوثيقة". وأعتقد اني التزمت هذه القاعدة... كأن يقال مثلاً: ان كمال جنبلاط كان متناقضاً في بعض المقالات. ومهمتي أنا أن أفسر تغيّر رأيه بين مقال وآخر، بين زمن وآخر، بين كلمة وأخرى. فالسياسة مسرح كما يقول جنبلاط. عود على بدء كأنك تسعى الى التبرير؟ - قرأت ما كتبه كمال جنبلاط. وهذا ليس سهلاً: كان فيلسوفاً وسياسياً. مما دفعني الى العودة الى الوراء والبحث عن مراجعه، والى تحصيله العلمي ابتداء من عينطورة: المناهج التعليمية التي كانت تدرس آنذاك. وأفضى بي بحثي هذا الى لقاء غريب عجيب، في العام 1991، إذ قابلت الأب بيار كوركيه الذي درّس كمال جنبلاط في عينطورة. انه رجل فرنسي أمضى حياته كلها في لبنان من دون أن يعرف كلمة عربية. حكى لي عن جنبلاط الصبي. انها فترة مجهولة من حياته، كما هي مرحلة دراسته في فرنسا. وحالفني الحظ أيضاً ان قابلت صديقاً لكمال جنبلاط على مقاعد الدراسة في السوربون بباريس، هو السفير حليم أبو عز الدين، فروى لنا تفاصيل من تلك المرحلة المهمة وغير المعروفة أو مدروسة من تاريخ كمال جنبلاط، علماً انها مرحلة شهدت تبنيه أفكاراً سياسية وخلالها اطلع على أفكار وتجارب سياسية وحزبية، منها ممارسة الجبهة الشعبية الفرنسية وبعض الاجراءات الاشتراكية... وكان مولعاً بالاشتراكية البريطانية. وقد مكنني ذلك من القول ان كمال جنبلاط لم يكن يكره السياسة أو يجهلها انما هو يرفض التفرغ لها واحترافها. جنبلاط والسياسة لكنه احترفها وتفرغ لها؟ - تماماً، وبدايات ذلك تمثلت في مقالته "رسالتي كنائب" 18/11/1946. فقد أسس لثقافة جديدة في لبنان مبنية على الحل الوسط والمناقشة والحوار. فقبله كانت السياسة في لبنان مبنية على مصالح زعماء الطوائف وعلى الموازين. ومذاك التاريخ خرج جنبلاط من قميصه الدرزي وأصبح سياسياً لبنانياً يتبنى ثقافة سياسية لبنانية. الى أي مدى خلع القميص الدرزي؟ - سؤال صعب، لأن كمال جنبلاط كان زعيماً درزياً ويحب طائفته مع بعض التحيز الذي بقينا نحس به حتى استشهاده. ليس تحيزاً وقحاً انما اعتزاز بتاريخ طائفته. كان باطنياً. وهذا من تأثير معتقداته الدرزية، الى حد كبير. لكنه كان يحلم بثقافة عالمية، أو حضارة عالمية. كان يقول: اني أعرف المسيحية أكثر من أي راهب. كان طوباوياً وساذجاً، حالماً وغير واقعي. والشغل الشاغل عنده هو اعتقاده ان مأساة لبنان في أن اللبنانيين لم يتكونوا كأمة موحدة، ولا بد من تجاوز الفوارق الطائفية من طريق تبني قيماً مشتركة. الى جانب الرواية الشفوية التي جمعت مادتها عبر المقابلات الكثيرة مع الناس ومع السياسيين، فإن للوثائق حصة كبيرة من الكتاب. غير انك لم تترجم "احترامك" للوثيقة بإثباتها كمرجع أو مصدر؟ - آثرت ان يُقرأ الكتاب بسهولة ويسر كرواية على أن يكون كتاباً أكاديمياً مشغول بمنهجية صارمة وجامدة. لقد حررت النص من الهوامش. وكيف يمكن الفصل ما بين الوثيقة والرواية الشفوية؟ - أكثر من 90 في المئة من الكتاب مادة موثقة لكني فضلت الاسلوب الروائي، كأن أسرد كيف كان يسبَح كمال جنبلاط وأين وما الى ذلك. وأقمت هذا المشهد على معلومات تفيد انه كان يحب السباحة ويتردد على ذاك النهر. غير ان لذلك تفسيراً آخر. انه نوع من تقاليد مدرسة الاستشراق السوفياتية التي تحجب الفارق ما بين الوثيقة والشفوي الذي تجمعه من هنا وهناك، من طريق التسلل، لكي تمرر الرسالة السياسية والايديولوجية؟ - لا أنكر ان ذلك من صفات المدرسة الاستشراقية السوفياتية لكني لم ألجأ الى حذف الهوامش إلا لأجل القراءة الممتعة.