تتعدَّد تعريفات التراث، وتبقى أَبلغَها كلمةٌ واحدة: الذاكرة. وكما في فقدانها انهيارُ الشخص فالشخصية فالكيان، كذا في فقدانها انهيارُ ماضٍ الأُمم وتاليًا جسر تقدُّمها في كيان التاريخ. من هنا اعتمدت منظمة اليونسكو سنة 1989 توصية «الحفاظ على التراث التقليدي والشعبي في البلدان وصونه من الاندثار»، ومن هنا إِطلاقُها سنة 2001 شرعة «الإِعلان العالمي للتنوُّع الثقافي»، للتمييز بين التراث الثقافي التاريخي والأَثري المادي والطبيعي (معالِم، أَماكن، محفوظات مادية قديمة،...) والتراث الثقافي غير المادي. ورأَت في هذا الأَخير «قالب التنوُّع الثقافي وضامن الإِنماء المستدام»، فأَقرَّت له شرعةً خاصة خلال الدورة الثانية والثلاثين (19 سبتمبر - 17 أُكتوبر) من جمعيتها العمومية سنة 2003 في مقرها الرئيس (پاريس) بموافقة 167 دولة. ومن يومها باتت ل»التراث الثقافي غير المادي» شخصيةٌ مستقلَّة ذات إِطار واسع ومضامينَ متعددة، في لائحة دولية تتزايد كل عام مسجِّلةً أَسماءَ وتواريخ ومعالم وتظاهراتٍ وأَعلامًا ومناسباتٍ، لحفظ الإِرث وسْعَ آفاقه اللامحدودة، من الإِبداعي إِلى الاحتفال بيوم المآكل التقليدية أَو الأَزياء الشعبية في عدد من بلدان العالم. التعريف أُمميًّا ما «التراث الثقافي غير المادي»؟ تعرِّف به منظمة اليونسكو أَنه «مجموع التقاليد الشفوية والعادات والتعابير والمرويات والأَزجال والحكايات والفنون الشعبية والممارسات والطقوس والأَحداث والاحتفالات الاجتماعية والمَعارف والمَدارك والتعامل مع الطبيعة والمحيط ومزاولة الحِرَفيات اليدوية التقليدية، وسائر الظواهر الشفوية المتوارَثة من الأَجيال السابقة إِلى الأَجيال الحالية». وتعتبر اليونسكو أَن التراث الثقافي غير المادي «عاملٌ أَوَّلُ في تماسُك التنوُّع الثقافي وتحصينه من تنامي العولمة» وترى أَن «نشْر مظاهره على المجتمعات المختلفة في العالم عاملٌ ضروري للحوار الثقافي بين المجتمعات، يشجع احترامَ مجتمعٍ أَنماطَ الحياة في المجتمعات الأُخرى» وأَن ظاهرة هذا التراث الثقافي «تلغي الفوارق بين الشعوب بكونها تراثًا لامادّيًّا لأَكثرَ من شعب في أَكثرَ من دولة». وتخلص اليونسكو إِلى أَن «أَهميته ليست في مجرَّد مظاهره وتظاهراته بل في غنى معارفَ ومداركَ ينقلها جيلٌ إِلى التالي في عملية متوارَثة ذات قيمة اجتماعية واقتصادية لدى دول في طور النمو كما لدى الدول النامية». وتُضيف اليونسكو سنويًّا مجموعة ظواهر ثقافية غير مادية في دول مختلفة من العالم. اللائحة عالميًّا.. بين الظواهر العالمية المُضافة أَخيرًا: من فنلندا الصونا التقليدية، وهي ظاهرة اجتماعية قديمة في تلك البلاد منذ آلاف السنين، باتت تقليدًا شعبيّ لحياة الفنلنديين اليومية في بيوتهم أَو في حمَّامات عامة. وهم لا يعتبرون الصونا مجرد استحمام فقط بل غسل الجسد والفكر وبلوغ السلام الداخلي. من مالطة أَضافت اليونسكو فن صُنع خميرة العجين (الفطيرة)، ومن زامبيا اختارت ظاهرة «البوديما» وهي رقصة المحاربين يزاولها الزامبيون طوال السنة في احتفالات ومناسبات وطنية. من البوسنة اختارت عملية جَزّ العشب في مدينة كوپْرِس التي تشهد أبرز حدث سنوي: مباراة في مرج سْتْريانِكا، يفوز بها الأَسرعُ في جَزّ أَكبر كمية عشب أَخضر متطاول عاليًا في ذاك المرج الواسع، بمنجل تقليدي خاص بأَقل وقت وأَكبر جهد وأَكثر عدد من جذوع الأَعشاب. وهو تقليد شعبي يتوارثه الأَبناء عن آبائهم. من إِيطاليا اختارت اليونسكو ظاهرة النفخ في قرن الصيد، وهي بدأت في فرنسا ثم انتقلت إِلى شمال إِيطاليا فنًّا شعبيًّا تقليديًّا. ومن البندقية اختير فنٌّ يدويٌّ جميل متوارَث منذ القرن الرابع عشر: صناعة الكُرات والسُبحات والحلقات الزجاجية. اشتهرت به مجموع جُزَيرات مورانو (البندقية) بأَفران زجاج منفوخ يُصنِّع منه الحرفيون أَشكالًا كثيرة. ... وعربيًّا من الدول العربية اختارت اليونسكو مؤَخرًا بعض المآكل الشعبية: وجبة «الكوسْكوس» الأَفريقية التقليدية، وهي طبق شعبي مغاربي (دول المغرب العربي) من أَصول أَمازيغية (قدامى سكان شمال أَفريقيا). ولا يغيب الطبق عن موائدهم ومناسباتهم، يتم إِعداده وتحويله حُبَيبات صغيرة تُطبخ بالبخار وتضاف إِليها أَصناف اللحم أَو الخُضَر أَو الحليب أَو الزبدة والسُكَّر الناعم ويقدَّم بالمرق أَو باللبن أَو بدونهما. وهو شائع أَيضًا في جزيرة صقلية الإِيطالية وحتى في فرنسا ممثِّلًا ثاني أَكلة مفضلة لدى الفرنسيين. من المملكة العربية السعودية اختارت اليونسكو حرفة السَدُو: نسيج تقليدي بدوي تراثي يستخدمه الحرفيون بوبر الجمل أَو شعر الماعز أَو صوف الغنم ليحوكوا خيمةً (بيت الشَعر) تقي صيفًا من حرارة الشمس ومن البرد في ليالي الصحراء. ومن الإِمارات العربية: نظام الأَفلاج القديم جدًّا، ومهمٌّ في حياة مزارعين يسكنون عند مجاري المياه والمسطحات المائية، يتطلَّبُ مهارة الحفر لبلوغ المياه الجوفية الصافية وإِخراجها من باطن الأَرض وجرّها بطُرق بدائية إِنما متينة في قنواتٍ توزِّع المياه على البيوت والأَراضي الزراعية. ومن تونس حرفة «الشرفية»: وسيلة صيد تقليدية بتشكيل مصائد ثابتة في البحر تبنى بسعف النخيل. وهي من أَقدم وسائل الصيد البحري التقليدي اشتهرت بها جزر قرقنة التونسية (ساحل البلاد الشرقي) منذ عهود سحيقة القدم. ومن الحِرَف المهدَّدة بالزوال وضرورة العمل على إِنقاذها اختارت اليونسكو حرفة النَول في صعيد مصر: وهي مهنة قديمة معقَّدة تستلزم الصبر والوقت والجهد والمهارة، بين تركيب النول وإِدراج الخيطان في مفاصله المتعددة المتشعبة ثم الحياكة، في عمل دقيق تلزمه حذاقة وبراعة. لذا بدأت مقالي بأَن أَبلغَ تعريف للتراث أَنه ذاكرة. ويا تعس بلاد لا تحفظ تراثها فتفقد ذاكرتها وينهار ماضيها ويسقط جسر تقدُّمها في كيان التاريخ. حِرفةُ النَول طبق الكُوسْكُوس المغربي هنري زغيب