لم يكُن ذاك المسافر يعلم أن مكانًا مفاجئًا يُطل عليه من نافذة القطار سيكون له أن يغيّر في سيرته ومسيرته. كان هادئًا في مقعده، يتأَمَّل من النافذة سُهولًا وبيوتًا وناسًا،، فيأسف أنْ ليس يتوقف ليرسم واحدة من لوحات طبيعية تتوالى أَمامه، فيما القطار يسحب من تحت عجلاته كيلومتراتٍ عاجلةً تلهث من صهيل هذا الحصان البخاري. تلك كانت حالة الشاب ابن الخامسة والثلاثين ڤِنْسِنْت ڤان غوخ حين مرَّ قاطع التذاكر سائلًا عن تذكرة هذا الحالِم. مدَّ يده بالبطاقة من دون أن يلتفت إلى الموظف. كان يتأَمّل من نافذة القطار مشاهدَ الناس والبيوت. كان ذلك صباح الاثنين 20 فبراير 1888. وكان ڤِنْسِنْت غادر پاريس عشية الأَحد، متْعبًا من ضجيجها، متوجّهًا إلى شمس الجنوب في مرسيليا. توقَّف القطار في بساط أَبيض جميلٍ تَنبُتُ منه سطوحُ البيوت ذارفةً ثلْجها حول المحطة. صدر صوت من المذياع: «ها نحن في محطة آرْل - وقفةٌ قصيرة من 15 دقيقة، نكمل بعدها 90 كيلومترًا إِلى مرسيليا». بين هدوء الثلج وزقزقة الربيع حمل الشاب حقيبتَه وعلبة الأَلوان، راغبًا في جرعةٍ من الشاي، وترجَّل من المقطورة. فجأةً عدَلَ عن الذهاب إِلى مرسيليا، وقرَّر البقاء في مدينة آرْل، غير مدركٍ أَن القدَر يُهيِّئُ له فيه مأْساتين. أَيامًا قضى يتنقَّل من فندقٍ إِلى غرفةٍ مستعارة في بيت موقَّت، متجوِّلًا راسمًا مناظرَ، مشاهدَ، وُجوهًا، بأُسلوب له خاص لم يُسعفْه في بيع لوحاته. أَرسل له شقيقه تِيُو مبلغًا ساعده على استئْجار منزل، سمّاه في لوحاته «البيت الأَصفر». ذاب الشتاء آخذًا معه صقيع الثلج الصامت، وأطل الربيع بباقات الحقول وأُضمومات البساتين ونجوم تتكوكب بثريَّات في سماء آرْل، فراح ڤان غوخ يخرج ليلًا، حاملًا ريشته وأَلوانه، متفقِّدًّا نواحي غيرَ بخيلةٍ بجمال المدى عمقًا وفضاءً. كيف وُلدَت الثلاثية؟ أَحَبَّ ڤِنْسِنْت تلك المدينة فأَنتج فيها مجموعةً لعلها أَجمل لوحاته، بينها ثلاثية «ليالي آرْل المُرصَّعةُ نجومًا»، سجَّلها بريشته، وبقلمه في رسالة إِلى شقيقَته: «هنا الليالي لا عتمةَ فيها. هي زرقاء وبنفسجية وخضراء، فأَهرع إِلى فرشاتي أُسجل اللقطة الهاربة بجمال سكونها». بهذه الدهشة أَمام جمال تلك المدينة، أطلَّ ذات ليلةٍ ربيعيةٍ على مقهى رصيف، وصفه لشقيقَته بالآتي: «رأَيتُ أَمامه أَشخاصًا يسهرون تحت مصباح مصْفرٍّ يشعُّ نوره بخفرٍ على واجهة المقهى وعلى بلاط الرصيف، ويمتدُّ بعيدًا حتى آخر الشارع، تحت نجومٍ سهرانةٍ في سماء زرقاء تتلأُلأُ بنفسجيةً وخضراءَ في مشهد مذهل لا أُحسن وصفه بالكلمات كما تَصفُه ريشتي». وبعد محاولات عدة، أَنجز لوحة المقهى ليلة الخميس 16 سبتمبر 1888، وسمّاها «مقهى الرصيف في صحو ليلة آرْل» وهي أُولى ثلاثيَّته. وراح ڤان غوخ يتردَّد ليلًا على ضفة نهر الرون، يتأَمل النجوم المبهرجة وينقلها بأَبجديته اللونية المميزة، فكانت تلك لوحة «نجوم فوق ضفَّة الرون»، ثانية الثلاثية. ثلاث لوحات ومأْساتان مساء الأحد 23 أكتوبر 1888 وصل إلى آرل صديقُه الرسام پول غوغان وسكَن معه في البيت الأَصفر. أخذ الرسامان يتجوَّلان معًا في نواحي البلدة الغنية بالمناظر الناطقة جمالًا وسحرَ طبيعةٍ وهدوءَ ربيع. يتجوَّلان ويرسمان، وڤِنْسِنْت مرتاحٌ إِلى وجود صديقه معه. ومن إِحدى تلك الجولات الليلية كانت لوحته «نجوم فوق ليل آرْل»، هي ثالثة الثلاثية. لكنّ نُفُورًا غريبًا حصل بينهما أدى ليلة الجمعة 23 ديسمبر 1888 إلى شجارٍ رفع خلاله ڤِنْسِنْت موسى الحلاقة في وجه صديقه غوغان الذي فرَّ مذعورًا وغادر المدينة. وقع ڤِنْسِنْت في حزن شديد وفي نوبة جنون، فأَدار الموسى إِلى وجهه وبَتَرَ به أُذْنه اليُسرى. أَخذ يصرخ ذعرًا وأَلَمًا فهرع إِليه جيرانه وحملوه إِلى مستشفى المدينة. هاتان المأْساتان (الخصامُ مع صديقه وبَتْرُ أُذْنه) غيَّرتا حياته الهانئة في آرْل. تدهورَت صحته فبات يتنقَّل بين المستشفى والبيت الأَصفر، واضطرب مزاجه فشكا منه جيرانه وطالبوا السلطات المحلية بمغاردته المدينة أَو عزْله في مستشفى الأَمراض العصبية. جاء شقيقه تِيُو من پاريس حزينًا لمصير شقيقه التاعس، فاصطحبه صباح الأَربعاء 8 مايو 1889 إلى مصحَّ سان ريمي (قرب مرسيليا). تتغير البلدة ولا تتغير الثلاثية هكذا انتهت، مأْساويًا، فترة 16شهرًا قضاها ڤان غوخ في أَرجاء آرل بين بساط ثلْجها وصحو لياليها ومكانه المفضل فيها: مقهى الرصيف قرب البيت الأَصفر. وفي إِحدى نوبات جنونه وهذَيانه، صوَّب المسدس إِلى صدره ليلة الأَحد 27 يوليو 1890 وأَطلق منه رصاصةً صوب صدره. غاب عن الوعي يومين وانطفأَ بعدهما صباح الثلاثاء 29 يوليو قبل أَن يكمل ربيعه السابع والثلاثين (مولده الأَربعاء 30 مارس 1853). اليوم، بين أَجمل ما يشاهده زوار متحفه أمستردام، ثلاثيَّتُه الخالدة: «نجوم فوق ضفَّة الرون»، «نجوم فوق ليل آرْل»، وخصوصًا رائعته «مقهى الرَصيف في صحو ليلة آرْل». لوحة «نجوم فوق ضفَّة الرون في آرل» لوحة «نجوم فوق ليل آرل»