سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
حوار خاص مع أكبر معمرة عاصرت أحد أشهر الرسامين العالميين . جان كالمان 117 سنة ل "الوسط": عرفت فان غوغ في أسوأ أيام حياته وشاهدته يرسم والألوان تلطخ وجهه ولحيته
اذا كان الرسام الاسباني بابلو بيكاسو استطاع ان يهز فن الرسم بطريقته الحديثة خلال حياته، فان زميله الهولندي فانسان فان غوغ خضّ العالم بلوحاته الفنية بعد مماته، حيث وصل سعر احداها الى 60 مليون دولار، وهو رقم ندر ان بلغته لوحة لأي فنان آخر. وفان غوغ الذي عاش مغموراً وفقيراً و... مات معدماً، الا انه عاد واشتهر كثيراً بعدما عرف فنه الطريق الى العالم الخارجي والى الدور الراقية ومنازل الاغنياء، وكان ذلك بعد وفاته ودفنه في مدينة آرل الواقعة في جنوبفرنسا. "الوسط" زارت مدينة آرل وتفقدت الاماكن والساحات التي عاش فيها الفنان الكبير وقابلت المرأة الوحيدة الحية في العالم التي عرفت فان غوغ خلال الفترة التي عاش فيها في فرنسا. هذه المرأة تدعى جان كالمان وهي تبلغ اليوم من العمر 117 سنة. "الوسط" التقت جان كالمان، اكبر معمرة في العالم، وحاورتها وعادت من آرل بالتحقيق الآتي: الثلج كان يتساقط بكثرة ذلك النهار من شهر شباط فبراير 1888. ومحطة السكة الحديد، في مدينة آرل، في الجنوب الفرنسي كانت تهزها رياح باردة تخرق العظم. المدينة نفسها كانت غارقة تحت رداء ابيض. فشتاء ذلك العام كان قارساً على غير عادته. في ذلك اليوم، خرج فانسان فان غوغ في احدى عربات الدرجة الثالثة للقطار الذي انطلقت به من باريس، من محطة الجنوب، ينوء تحت عبء ما يحمله من حقائب. قبعته تخفي جزءاً كبيراً من وجهه. ثيابه الغريبة، لحيته، سمنته تعطيه بعداً مختلفاً لما هم عليه سكان آرل. من المحطة، توجه فان غوغ الى حيث قادته خطاه، الى الشارع الذي يؤدي اليها مباشرة. ولأن حقائبه كانت تنهك جسمه المريض، ولأن البرد والثلج كانا يمنعانه من التفتيش طويلاً، فقد دخل اول نزل وقعت عليه عيناه باحثاً عن سقف يؤويه وصحن يهدئ جوعه وموقد يمنحه بعض الدفء. كانت هذه اولى تجارب فانسان فان غوغ مع مدينة آرل، روما بلاد الغال الفرنسية، ذلك المتحف الطبيعي التاريخي المفتوح للباحثين عن الوحي من الفنانين والرسامين والشعراء وللباحثين عن الشمس واللون والطبيعة من المتعبين. هذه كانت حال فان غوغ الذي ولد عام 1853 في قرية ضائعة من هولندا، تلك التي تسمى "البلاد المنخفضة" حيث الشمس شاحبة والألوان رمادية باهتة لا ألق فيها ولا حياة. ولأن النفس تتغذى من المحيط، فان غوغ ابدى منذ نعومة اظفاره ميلاً الى الوحدة. نفسه القلقة جعلته يترك المدرسة باكراً متنقلاً، في بداية شبابه من لاهاي الى لندن الى باريس، مستخدماً في معارض للرسم. وباكراً جداً تيقن فان غوغ ان الطريق الوحيدة التي تشده اليها وتعطي حياته معنى وكينونته عمقاً اسمها الرسم. اللغة الوحيدة التي يرتاح اليها لغة اللون والشكل والاضواء والظلال. وهكذا، بعد تجربة عاطفية فاشلة وتجربة حياتية فاشلة ايضاً انصرف الى اتقان الرسم في اكاديمية بروكسل للفنون الجميلة. لكن سريعاً ما ضجر من الطرق التعليمية التقليدية والنظرة المتحجرة الى الرسم والفن. ففي نفسه بركان ثائر دوماً وأفكار ومشاريع لا يمكنها ان تتعايش مع الواقع المسطح والتقليدية الاجتماعية. فعاد الى قريته منصرفاً الى الرسم محتذياً الواقعية. ومن نتاج فان غوغ لهذه الفترة لوحة شهيرة عنوانها "أكلة البطاطا". لكن حياة القرى لم تكن تتلاءم مع طبعه ورغبته في تجارب جديدة. فسلك طريق لاهاي ومنها الى باريس التي سبقه اليها اخوه تيودور "تيو". أتون باريس بوصوله الى باريس عام 1886، سريعاً ما وجد فان غوغ نفسه في أتون حارق. ففيها التقى رسامين آخرين منهم تولوز - لوتريك، برنارد وخصوصاً غوغان. باريس كانت تضج ايضاً ب سيزان وبيسارو وغيرهما من الانطباعيين وكانت تعتملها حركة فنية وفكرية لا مثيل لها. لكن المشاريع كثيرة ووسائل العيش قليلة بوجه هؤلاء الذين دخلوا هيكل الفن برؤى جديدة تنسف التقليد والمقبول اجتماعياً. حول تيودور، تجمعت حلقة من الفنانين كان يسعى لمساعدتها وترويج انتاجها واخراجها من البؤس الواقعة فيه بعرض لوحاتها في محله. غير ان العاصمة الفرنسية كانت بالنسبة لهؤلاء كالضوء الذي يحرق اجنحة الفراشات. الاغواء فيها كبير. الغنى الفكري والروحي كان يتعايش مع الطموحات المتضاربة لهذه الشخصيات الفذة الخارجة عن المألوف. وشيئاً فشيئاً، ومع نموّه الفكري واكتمال فنه واتساع آفاقه ومشاريعه، كان فان غوغ ينحدر في سلّم الحياة مندفعاً الى الهاوية بسرعة كبيرة لم تنقذه من عقباها سوى عاطفة اخيه ونصائحه ودالة تولوز - لوتريك عليه. كلاهما طلبا منه ان يبتعد عن باريس، صوب الجنوب، وتحديداً الى مدينة آرل الغنية بتاريخها القديم وبتجاربها الفنية. هكذا نجد فان غوغ في محطة آرل. ترك باريس وراءه وترك شاقوفها الذي كان يطحن كل يوم جزءاً اضافياً من كيانه وجسده المنهك. يقول فان غوغ في رسالة الى اخيه تيو، "عندما ودّعتك في محطة الجنوب اسمها اليوم محطة ليون كنت مريضاً وضائعاً وكنت على وشك الانهيار التام اوان اصاب بالشلل". في آرل، دخل اول نزل وقعت عليه عينه في حي المحطة: اوتيل كاريل، الواقع في شارع "لاكافاليري". فان غوغ استأجر غرفة في الطابق الاول من النزل. وعلى الرغم من الخيبة الاولى من الطقس المثلج، بكّر في اليوم الثاني في النزول الى السوق لشراء القماش والألوان والريشات وبدأ العمل من غير تمهّل: لوحته الاولى كانت لعجوز من آرل، ثم مدخل حانوت ومشهد طبيعي يمثل مدينة آرل تحت الثلج. اللوحات اخذت تتكاثر في غرفته الضيقة. فان غوغ تسكنه رغبة في العمل لا توصف وحماس لم يعرف له مثيلاً. عمره كان 35 عاماً. لكنه مع ذلك لم يكن بدأ بعد في كسب لقمة عيشه بمفرده. تيو كان يدسّ الاوراق النقدية من فئة 100 فرنك او 500 فرنك في رسائله. ولكن ما يهم؟ فان غوغ متحمس جداً ويعمل كثيراً وبدأ يشعر بأن نتاج آرل مختلف عما فعله في الماضي. ألوانه تغيرت ولوحاته اكثر اضاءة! الثلج قد ذاب. الطقس البارد اخلى المكان لشمس ربيعية وسماء صافية. اشجار اللوز ازهرت. ثم تلتها اشجار الكرز والدراق. البساتين والحقول دبت فيها الحياة. ومع تفتح كل برعم، كان فان غوغ يكتشف حياة جديدة لم يألفها في الماضي. الطبيعة تناديه. وكل يوم كان يخرج من غرفته ويدور في هذه البقاع العامرة بالغار والبيلسان والوزال... الطبيعة في عيد وكذلك فان غوغ، وتتكاثر اللوحات: "البستان المزهر"، "الجسر"، "سهل كرو"، "آرل وأزهار السوسن"... خلال 15 يوماً رسم فان غوغ ثماني لوحات من الحجم الكبير. وفي رسالة الى اخيه، يسجل الرسام انطباعاته: "انني اشعر كأنني موجود في اليابان لنقاء الجو وانعكاسات الالوان الفرحة. للمياه ترجيعات بلون الزمرد وغياب الشمس برتقالي شاحب، تظهر معه الارض زرقاء...". ربيع آرل تفتح لوحات عند فان غوغ. ومع مجيء الصيف واصفرار سنابل القمح، ترك فان غوغ غرفته ليقيم في الحقول لاشباع عينيه من هذا اللون الذهبي البراق ألوانه ازدهت بالحياة ولوحاته اصبحت اكثر تألقاً ونبضاً: "العربة الزرقاء"، "دوّار الشمس"، "البيت الاصفر" كلها اسماء للوحات خالدة تتطابق مع الاشهر الاولى لاقامته. في آرل، لوحة دوّار الشمس رسمها فان غوغ بأربعة نماذج، لعل اكملها اللوحة الرابعة التي تمثل 14 قرصاً لدوار الشمس في مزهرية على لونين: اصفر وأزرق شاحب. الضوء الضوء الضوء... هذا هو سر فان غوغ. اللون عنده لم يعد كما في النظريات الفنية التي سبقته للتدليل على الامانة والواقعية. اللون يعيش بذاته ولذاته. فان غوغ يحمّله الشحنة التي يريد. فهو هدم الالوان وأعاد بناءها على هواه. وفي كل ذلك، هو سعيد. من جهة يتنفس مع سنابل القمح والاشجار المثمرة ومن جهة اخرى، البحر قريب. المتوسط ازرق لمّاع، مختلف عن بحرالشمال الرمادي البارد. عينه الثاقبة لم تكن تشبع مما يرى. لكن هذه السعادة الغامرة لم يكن قادراً على ان يعيشها بمفرده. كان يريد من يشاركه اياها، ان يتلاقح فكره بفكره، ان يغتنيا معاً. ونشأت في ذهن فان غوغ فكرة انشاء بيت للفنانين في مدينة آرل يعيشون فيه كجماعة متضامنة متكاملة. لكن هم فان غوغ الحقيقي كان ان يجذب اليه غوغان. غوغان "المعلم" كان بغيته. ومن له من معين على تحقيق مشروعه هذا سوى اخيه تيو الذي يتكفل بتحقيق مشروه وباعالة الفنانين معاً وتدبير سفر غوغان مقابل ارسال لوحاتهما اليه بشكل منتظم. ولهذه الغاية انتقل فان غوغ من النزل واستأجر منزلاً: "المنزل الاصفر" الذي حرص على شراء اشيائه بنفسه وتزيينه حتى ينال رضا غوغان "المعلم". لكن هذا الاخير، السابح فوق بساط من الشهرة والمجد لم يصل الى آرل الا في 20 تشرين الاول اكتوبر من العام 1888 بعد ان طال انتظاره. عودة الى المأساة اذا كان فان غوغ سعيداً بوصول غوغان، وبتحقيق حلمه الكبير بأن يجد نفساً تؤانس نفسه في لغة الفن واللون، الا انه كان يتخوف من هذا اللقاء ومن طريقة تعامل غوغان معه. ذلك ان فان غوغ كثّف، خلال اقامته في آرل، تجربته الفنية وعمّق آراءه في الرسم والحياة، وشحذ شخصيته التي لم تكن تقبل موقف التعالي وان جاء من غوغان نفسه. وبالفعل فان لحظات الفرح التي افرزها اللقاء الأول سرعان ما نغّصتها النقاشات الحامية واختلاف الآراء والمواقف. وما كان يهد فان غوغ ان كل المحبة والتفاني اللذين كان يكنهما له، كان الآخر يقابلهما بعدم الاكتراث والبرودة الجليدية. فعاد فان غوغ للغرق في ازمته النفسية وفي سوداوية الحياة. وعاد للضياع ولإهمال نفسه. قبل وصول غوغان، كان يعاني من الوحدة. وعندما كانت الوحدة تطأ عليه الى حد ان تسحقه كان ينسلّ في الليل الى نزل قريب من المحطة الى حيث تسكن سيدة تعرّف اليها. قربها كان يفتش عن شيء من الدفء والحنان. وبعد وصول غوغان اخذ فان غوغ يعاني من عدم التفهم لا بل من الازدراء. قبل وصول غوغان، كان الامل يغزو قلبه وكان متيقناً من نجاحه ومن عبقريته على الرغم من انه حتى ذلك التاريخ لم يكن اخوه تيو في باريس نجح في بيع اي من لوحاته التي كان يراها اهل ذلك الزمان غريبة ومن غير قيمة. لم تكن نفس فان غوغ القلقة تتحمل الهزات العنيفة والخيبات الكبرى. وفي بداية شهر كانون الاول ديسمبر وعقب جدال حام مع غوغان اعلن هذا الاخير عن رغبته بمغادرة آرل الى باريس. وكان هذا الاعلان بمثابة طلقة الرحمة على فان غوغ الذي اخذت تنتابه بكثرة ازمات نفسية حادة لم تنجح رسائل تيو في تهدئتها. ووفق ما يرويه غوغان، فإن فان غوغ تعقبه ذات مساء 23 كانون الاول - ديسمبر في الشارع شاهراً في يده موسى وساعياً الى قتله. وفي تلك الليلة نام غوغان خارج "البيت الاصفر" الذي عاد اليه فان غوغ وحيداً، فأغلق نوافذه وأضاء سراجاً وضعه قرب النافذة. وفي عاصفة من الجنون، قطع فان غوغ اذنه. وبعد ان لفّ رأسه بضمادات، خرج من المنزل وذهب الى النزل حيث صديقته، التي ترك لها اذنه قائلاً: "هذا تذكار مني". وعاد الى المنزل ونام. من هذه الفترة المأسوية من ناحية فان غوغ، هناك شهادات: رسائل الفنان نفسه الى اخيه واخته وبعض اصدقائه. وشهادة غوغان والاصداء التي دوّنتها الصحف المحلية وما دوّنه من عرف فان غوغ مثل الدكتور راي الذي عالجه في مستشفى اوتيل - ديو التي اصبحت لاحقاً مستشفى فان غوغ ف "معرض فان غوغ". وهناك ايضاً البورتريه الذي رسمه فان غوغ لنفسه بأذنه اليمنى المقطوعة واللوحة التي تمثل داخل المستشفى حيث المرضى يلتفون حول الموقد. غير ان كل هذه الشهادات المدونة او المرسومة شهادات ميتة اصحابها ماتوا. وكل الذين عرفوا فان غوغ ماتوا ايضاً باستثناء شخص واحد ما زال حياً. هذا الشخص، او بالاحرى هذه المرأة، هي ظاهرة بنفسها. عرفت فان غوغ وخاطبته وتأملت لوحاته. وكانت قريبة منه يوم دفعت به موجات جنونه الى ان يقطع اذنه. شهادة حية لامرأة حية هي الى حد كبير ذاكرة القرن الماضي وهذا القرن. اسمها جان كالمان. ولدت عام 1875 وعمرها اليوم 117 عاماً. هي اوفق ما دوّن على التمثال المنصوب تكريماً لها، "عميدة الانسانية" اذ انها اكبر انسان معمر معروف على الارض. كتاب غينيس للأرقام القياسية ادخلها صفحاته. انسان - مرجع، فقدت البصر لكنها لم تفقد البصيرة او الذاكرة او رغبتها في الحياة. فتشنا عليها فوجدناها في مدينة آرل، في مأوى يحمل اسمها تابع لمستشفى ايمبار في ضواحي المدينة الاثرية وزرناها وبقينا الى جانبها يوماً كاملاً. جان كالمان اصبحت معلماً من معالم مدينة آرل. اسمها ارتبط باسم فان غوغ الذي خلّد بلوحاته هذه المدينة وساحاتها وسماءها ونجومها واشجارها وبعض الناس فيها: ساعي البريد لولان وزوجته، الدكتور راي، امرأة من آرل... وجان كالمان اصبحت محجة في آرل وهدفاً لمن يرغب بأن يلتقط شيئاً ما عن هذا الانسان الغريب الذي ولد فقيراً ومات افقر مما ولد. وبين نقطتي بداية حياته ونهايتها عاش غريباً في عالم غريب بعيداً عن قيمه السائدة. احتج على الحياة مرة بأن انتزع من وجهه اذناً واحتج عليها مرة ثانية فوضع حداً لحياته الخاصة. جان كالمان، في ما تقوله عن فان غوغ، تنقل ما رأته بعينها وما سمعته بأذنها، وتنقل الاجواء التي كانت تحيط باقامة فان غوغ في آرل. الرسام اثار بتصرفه "المريب" حفيظة السكان فكان ان كتب ثلاثون منهم الى مديرالشرطة طالبين اليه تخليصهم من هذا "الرجل المجنون"، مصدر تهديد للأولاد والنساء. وذات صباح، وصل رجال الشرطة الى "المنزل الاصفر" واخرجوا ساكنه منه وقادوه الى المأوى - السجن حيث القوه في زنزانة، معزولاً عن بقية النزلاء. ولم يخرج فان غوغ من زنزانته الا بعد اسابيع وبوساطة الدكتور راي وكفالته الشخصية. الحديث جلست الى يمين جان كالمان عملاً بنصيحة الممرضة التي اخبرتني ان اذنها اليمنى سليمة. وبعد ان اخبرتها عن غرض زيارتي، تألق وجهها ودبّت في اوصالها الحياة. سألتها: * كيف عرفت فان غوغ؟ - عرفت فان غوغ في اواخر ايامه، عندما جاء الى مستشفى آرل ليتداوى من الازمة التي كان يعاني منها. كان جسده منهكاً، مليئاً بالكحول. كان نصف حيّ. كان مجنوناً. كنت برفقة ابن عمي فرناند كالمان الذي اصبح لاحقاً زوجي. فرناند كان صديقاً للدكتور راي الذي اهتم بفان غوغ بعد ان قطع اذنه. وعندما قال لي: هذا هو فان غوغ، اصبت بالخيبة. فقد كان ملتوياً على نفسه وفي حالة يرثى لها. كان عمره وقتها 35 عاماً. * وماذا كان يفعل فان غوغ عندما رأيته للمرة الاولى؟ - عندما رأيته للمرة الاولى، كان جالساً وفي يده فرشاة للرسم وأمامه لوحة يعمل على انجازها. وفي الغرفة ناس كثيرون يتفرجون. كانت الالوان المختلفة تلطخ وجهه ولحيته وثيابه. كان منظره غريباً. وأقاطعها: * ما هي الذكرى التي تركها عندك؟ - الذكرى سيئة جداً. لقد عرفته في اسوأ ايام حياته. فان غوغ كان مخيفاً. رائحة الكحول كانت تفوح منه باستمرار. صحيح انه عاش في آرل، لكنه لم يتعرّف على بنات آرل وعلى نسائها. لم يكن يرتاد سوى الحانات. في مستشفى آرل اعاد الدكتور راي الجزء المقطوع من اذن فان غوغ الى مكانه. وقد اراد الرسام ان يشكر الدكتور راي، فقام برسم لوحة له. وعندما انتهى من اللوحة وقدمها الى الدكتور راي، رأتها زوجته فلم تعجبها فقامت بوضعها في الاسطبل. ونغوص في ذاكرة هذه المرأة بحثاً عن اخبار فان غوغ ولكن كذلك لنتعرف عليها وعلى العصر الذي عاشته واختزنت منه صوراً يجب البحث عنها وإثارة فضولها ودفعها الى الكلام. تقول جان كالمان ان الحياة التي عاشتها كانت مليئة بالسعادة. فقد ولدت في عائلة بورجوازية عريقة في آرل حيث كان والدها يهتم بصناعة السفن التجارية. ولأنها كذلك، لم تجد حاجة الى ان تعمل طيلة حياتها. ذهبت الى المدرسة في آرل حتى سن السادسة عشرة وعندما وصلت الى الواحدة والعشرين تزوجت ابن عمها فرناند الذي ساعدته في ادارة محله للحرائر. ومعه تعرفت على الشاعر فريدريك ميسترال وسافرت كثيراً ومارست رياضات كثيرة ليس اهونها الصيد والتسلق والسباحة والتنس والدراجة الهوائية التي بقيت رفيقتها حتى بلغت مئة عام! الحياة منت عليها بفتاة سمتها ايفون عام 1898 وايفون اعطتها حفيداً. لكنها خسرت البنت والحفيد في حادثين مأسويين ثم خسرت زوجها عام 1942. غير ان جان كالمان لم تفقد الامل وبقيت على تفاؤلها. ولم تغير عاداتها. بقيت تقيم في منزلها، في شارع "لاروكيت" حتى العام 1985، وبقيت على حبها للرياضة وعلى تعطشها للحياة التي نهلت منها من غير تمهل. وتخبرني جان كالمان، عميدة الانسانية، انها لم تمرض ابداً في حياتها وان صحتها المتينة ورثتها عن اهلها. ذلك ان والدها عاش 97 عاماً وأخاها 99 عاماً وانها سادس امرأة من آرل تتخطى المئة عام. ومنذ 21 شباط فبراير الماضي، تجاوزت جان كالمان ال117 ولكنها تعترف "ببعض الوهن". لغتها ما زالت انيقة وكلماتها تختارها بعناية وان كان فقدانها البصر منذ عامين وضعها في حال من التبعية ازاء محيطها. تاريخ كامل جان كالمان والتاريخ الحديث صنوان: فمن مكماهون وحتى فرنسوا ميتران عرفت 25 رئيساً للجمهورية الفرنسية. عاشت الثورة الصناعية والتطور العلمي والتكنولوجي من غير ان تندهش. اهتمت وهي ابنة آرل - ولقبها "مونزانا" - بالعالم وها هو العالم اليوم يهتم بها فيقصدها الصحافيون من كل انحاء العالم. انتظرت قرناً كاملاً حتى تحدث الناس عنها. وهي تسحر سامعيها بما عندها من جمل ساخرة وذكريات. تحب الشوكولا. وتقول عنها مدام مونيون، ممرضتها، انها ذات غنج، تحب ان تكون نظيفة، مصففة الشعر. واسأل جان كالمان عن الاحداث الكبرى في هذا القرن فتتوقف ذاكرتها عند الحرب العالمية الاولى التي تقول عنها انها اصابت كل الفرنسيين وانها شاهدت الجنود يتركون محطة القطارات للصعود الى الجبهة. وتتحدث عن كليمنصو الذي رأته مرات عدة وعن الجنرال ديغول الذي تكن له اعجاباً خاصاً. وتعود الى فان غوغ الذي لفت نظرها بالالوان الغامقة جداً التي يستعملها في لوحاته والتي كان يهرب منها اهل ذلك الزمان. غير انها تضيف ان والدها كان يحب لوحات الرسام الشهير وانها التقت مرة غوغان، بصحبة فان غوغ في شارع قريب من المحطة. تسترسل جان كالمان، في الحديث عن فان غوغ. فالفنان، بعد ان اقتادته الشرطة الى مأوى - سجن آرل، لم يعد قادراً على تحمل الحياة في آرل. فالأولاد كانوا يتجمعون حوله في الشارع ويصرخون: "ها هو المجنون" وكانوا يتسلقون سقف بيته ويرشقونه بالحجارة. وبالفعل، فإن فان غوغ بعد رحيل غوغان وتجربة المأوى، كتب لأخيه يخبره برغبته بالمغادرة. وهكذا انتقل الى مستشفى للأمراض العقلية في سان - ريمي - دو - بروفنس، قريباً من آرل في 8 أيار مايو 1889 اي بعد 15 شهراً من الاقامة في المدينة التاريخية. فان غوغ خلّد المستشفى في لوحة شهيرة يغلب عليها اللون الاصفر واللون البني. ومن مكان اقامته الجديد، كان يكتب الى اخيه يخبره عن قراءاته وعن مشاريعه ولوحاته الجديدة. وبعد ان حصل على اذن بالخروج، كان يدور في الجوار متيقظ العين. واذا كان في بداية اقامته الجديدة ? المؤقتة قادراً على تحمل منظر زملائه ذوي الاشكال القبيحة والمجانين والمعتوهين، الا انه مع مرور الوقت اخذ يشعر بضرورة الهرب. ومن هذه الاقامة، وصلتنا من فان غوغ لوحات عدة منها: "الحقل المسيج" و "الحصاد" و الألبيل" و "بستان الزيتون" وغيرها من اللوحات ذات البعد الديني. غير ان الازمات النفسية عادت لتضرب فان غوغ. وفي احدى زياراته الى آرل اصيب بنوبة كبيرة لم يخرج منها الا بعد اسابيع. وفي 16 ايار مايو 1890، ركب فان غوغ القطار من مدينة تاراسكون الى باريس مسحوقاً تماماً. وفي باريس لم يبق سوى ايام ومنها انتقل الى اوفير - سور - لواز. وفي 27 تموز يوليو اطلق النار على نفسه ومات بعد عذاب لا يطاق دام يومين. هكذا انطفأت شمعة فانسان فان غوغ، الرسام العبقري - المجنون. لكن شمعته اضاءت مدينة آرل ومنطقة لابروفنس. اغتنت منها الواناً وسحراً وخلّدتها في لوحات موزعة على اكبر متاحف الدنيا. وشمعة فان غوغ خلفت ذكريات حية تقصها جان كالمان على من يسألها عن فان غوغ وترويها لنفسها وتتزود بها في اواخر حياتها. امرأة مدهشة ورسام مدهش. المصادفة الزمنية والجغرافية جعلتهما يتقاربان من غير ان يتعارفا حقيقة. في آرل التي هدمت "البيت الاصفر" و "نزل كاريل"، الطبيعة ما زالت هي نفسها بنجومها وأزهارها. اشجار اللوز تزهر كل عام وسيقان سنابل القمح تلتوي عندما يحين الحصاد. وفي آرل ايضاً، امرأة، عميدة الانسانية، شاهدة على عصر، ما زالت تقطع السنين، ورغبة الحياة عندها متوقدة وشمعتها مضيئة.