فصل الحكاية وبداية البداية، من حلم وطموح، وروح واعدة، وأمل نحو المستقبل، تردد صدى كلماته في العقول قبل القلوب، أثار مكامن القوة وحفّز الهمة عندما قالها لنا: «ما نمر به اليوم تاريخ لا ينسى وتحد مع الزمن، سنجني قريباً منجزات وأعمالًا لا تخطئها الأنظار». إنه رجل الحلم والرؤية، رجل خلق لشعبه قاعدة ذهبية لينطلق بهم نحو المجد والمستحيل. اختصر كل المسافات والتنظيرات بقوله: «ابحث عن الشغف»، فكان التحدي الذي راهن عليه في زمن الصعوبات، إلى أين سنحلق معك يا سمو الأمير محمد بن سلمان؟ فماذا قال؟ وما هذه الكلمة الآسرة؟ وما سرها؟ إنها الكلمة التي تحرك الإنسان بمشاعره وطاقاته، وتوجهه نحو جوهر روحه الحقيقي، ذاك الخفي الغافي في طيات ذاته، فتجعله يقف متسائلاً: ما القيمة الحقيقية داخل نفسي التي تدفعني نحو الإبداع؟ وأين تكمن قوة اهتماماتي؟ وهل يجب علي أن أؤمن بشغفي؟ إنه السر، والسعي الحثيث للوقوف على خبايا الذات والتحليق بها خارج السرب، وكأن عقلية كانط تُلح علينا باعتبار الشغف آلية إقناع كافية، عندما يمتلك الإنسان الجرأة على استعمال عقله، فنقول لكانط: «إن ما لا يدرك كله لا يترك جُلّه» بهذه القاعدة الفقهية يكون التوازن. وتبقى الحياة ساحة الرهان المفتوحة على اختبار العقل وجرأته على القفز خارج المضمار، نحو الاختبارات التي توافقنا، أو الميول التي تلائمنا، أو ذاك الخيال الذي يجسدنا. إننا لا نريد الخوض في مفاهيم الشغف وتعدد معانيه، بل نريد أن نتعرف عليه في حلّته الجديدة المتمثلة في كونه سر وجودك في الحياة، في تحفيزه لشجاعة التعبير عن أفكارك وقناعاتك بلا خوف، في رسم خطوط حقيقتك على أرض الواقع، فيكون العالم من حولك مكاناً للفرص اللامحدودة. عندما قال إيليا أبو ماضي: أيقظ شعورك بالمحبة إن غفى لولا شعور الناس كانوا كالدمى أحبب فيغدو الكوخ قصراً نيراً وأبغض فيمسي الكون سجنًا مظلمًا أي سحر هذا الذي يحول الكوخ قصراً والكون سجناً؟ إنما كان يدعونا إلى جوهر الحياة الكامن في بحث الإنسان عن شغفه، وأول الغيث قطرة، وعندما يهطل الحب تزهر الحياة. هذا الشغف هو ما يجعل من أسطورة سيزيف وعذاباته في حمل الصخرة نوعاً من السعادة، وإن كان بائساً، فيعترض أحدهم قائلاً: مستحيل كيف ذلك؟ أين هي السعادة وهذا العذاب والجهد الذي يبذله سيزيف ليرفع الصخرة إلى الأعلى؟ فنجيبه نعم هذا الجهد خلق التحدي في ذاته فمجرد إنزال الصخرة يملأ حياته بالفراغ، وهذا أصعب ما في الحياة عندما يصل الإنسان إلى لحظة الفراغ الشقية البائسة. فبلغة الشغف عليك أن تنتزع الفرح والتحدي من قلب الجحيم، وللتاريخ وقفاته، فهو الشاهد على سجال التحدي وصراع الوقت والأحداث على مر العصور والأزمان، فقد كان زرياب (أبو الحسن علي بن نافع الموصلي) أسطورة في الاتكيت والذوق العام، رجل عربي خرج من بغداد مرتحلاً باحثاً عن أرض لطموحه ووطن لانطلاقه، فكانت الأندلس في ذلك الوقت الغاية والحلم، فأصبح وزير الفن والتعليم والثقافة في الأندلس، أدخل إلى أوروبا قواعد الذوق العام في الكلام والجلوس والشراب والطعام، وأدخل إلى بيوت النبلاء أفخم الأقمشة، وذاك المنديل في يد سيدة نبيلة إنما كان لفتة من ذوقه، هل توقف هنا؟ طبعاً لا، كان أول من اخترع الموشح المعروف لأنه عمم طريقة الغناء على أصول النوبة، وصنع العود بخمسة أوتار فاكتسب عوده ألطف المعاني وأكمل الألحان. ويأخذنا الشغف في رحلته فنجده ثائرًا مجدولاً بالتحدي والصعوبات في روح شاعرتنا نازك الملائكة والذي جعلها تنطلق راكضة إلى بيت أختها إحسان وتقول لها: «كتبت شعراً مختلفاً من حيث الشكل، سيسبب جدلاً كبيراً» وكان لها ما قالت، ولم تكتفِ بل عزفت العود وعانقت ألحانه وتحررت نحو فضاءات الإبداع وحلقت بالمرأة العربية، كما فعل فيلسوفنا أبو نصر الفارابي وجعل من صناعة العود محطة سلامة مع ذاته، وتحليق في عالم لا محدود وسط علمه وفلسفته، وكذلك كان الكندي. في النهاية نصل لجوهر سؤالنا، هل الشغف صورة عقلية زائفة تتعلق بمدى خوفنا من التغيير؟ ففي عالمنا المعاصر يزداد التعقيد، فالتعامل مع الاهتمامات المتنوعة على أنها قابلة للتطوير هو الابتكار والمركب السحري للشغف، فلا يوجد في الإبداع أكثر من الالتزام بالوقت وتوحيد الجهد للوصول إلى النتيجة المرجوة. (أوقد جذوة الشغف الغافية في نفسك، وابعث روح التحدي، وحلق في فضاءات روحك كالطريد السماوي، سيصير يوماً ما يريد).