للون والنور أسرار في طبيعة جبران خليل جبران، من فرط النعومة والرقة والشفافية، التي تحيق بالعناصر والكائنات وربما من مزيج الجمال والحزن والألم الذي يصهر الأنفس ويطبع الأشياء بطابعه. تتراجع الحقيقة أمام الوهم كما الصور التي يمحوها الضباب. جبران ليس رساماً للمناظر الطبيعية بالمعنى الأليف للكلمة. بل هو شاعر القَصَص وقاطف الرؤى والأحلام. لذلك طبيعته أبعد من وصف العين وأقرب الى المثال، أعلى من الذاكرة ودانية من القلب، ربما هي من واقعٍ وأجنحةِ خيالٍ ورموز. تتراءى خشبة خلاص أو ملاذاً للحالمين بالغفران المترفعين عن الشهوات والباحثين عن الطمأنينة والحب والرجاء. لذلك جاءت على قدر كبير من الخصوصية وعلى جانب من الرمزية الميتافيزيقية. تنم عن اختيارات لونية محدودة ذات معطيات ودلالات إيحائية. يدور في فلكها ثالوث الأرض والسماء والماء. ولئن احتل المشهد الطبيعي في فن جبران المرتبة الثانية، كخلفية للحضور الإنساني، فإنه يفتح مدارك البصيرة على رحاب طبيعة مدينته بشري بقممها الشاهقة وسفوحها وسواقيها وتلافيف غيومها الشاردة في مفارق السماء، حيث تظهر العلاقة الوطيدة بين السماوي المقدس والترابي الفاني وما يعرج بينهما من ترانيم وصلوات، فقد بحث جبران لوجوهه الهائمة في فضائها الهيولي، عن مكان كي تتجذرَ فيه ومنه ترتقي الى الملأ الأعلى... فكانت الطبيعة هي المكان الذي استعاد من خلاله قيثارة طفولته الضائعة. عاش جبران طفولته بصمت وكآبة، بين صراع الأب والأم وأجواء الضيق والعوز. كانت الطبيعة عزاءه تدعوه للتأمل والصلاة كما كانت معلمه الأول الذي أيقظ في روحه وحياً وشعراً وحكمة وفناً. كان ينصرف دون أترابه الى التصوير. ينعزل قرب دير مار سركيس يصور أشياء بالقلم أو بالفحم. كثيراً ما شوهد منفرداً يتأمل ساقيةً جارية أو رهبةَ الأعماق أو شمخة الجبال أو يستغرق واجداً في نغمة ناي، مما جعل الكثيرين في المنطقة يتحدثون عن جبران "المجنون" أو "المسكون". وكم مجّد جبران الأيدي التي وسعت في أعماق الصخر فاتسع، وكانت الصومعة التي بناها الرهبان في صخور جبل الأرز، لوحدتهم وصلاتهم، تحولت الى دير مهيب يطل فضاء على الوادي المقدس مثل جنة الأعماق في موطن القمم. هناك تعمّد جبران في هيكل الطبيعة، التي استلهمها في مختلف وجوهها المادية والمعنوية. جاعلاً لها مقاماً رفيعاً في فنه وفكره. إنها طبيعة لبنان التي التصقت بذاكرته. هذه الذكريات التي أسبغ عليها هالة من السحر لأنها اقترنت بالحب والحرية. وجبران أحب الجمال لأنه غذاء الروح الأفضل "أحنُّ الى بلادي لجمالها" قالها في غربته الأميركية، إثر الصراع الذي وجده جبران بين الخط المنفلت في منحدرات قاديشا وهضباتها وخطوط المدنية الصارمة، وبين الضوء الرومنطيقي في طبيعة بشري والضوء المخنوق في المدينة. لذلك ظل موصولاً بخيط رحم الى طبيعته الأم يحيا في دوامة حنينه اليها، واجداً فيها حنان الأم التي فقدها لذلك أسقط عليها مشاعر الحب الأمومي، الحب المليء بالعطف والشفقة. الملامح التي أسست لوجود الطبيعة موهبة جبران التي حملته الى استديو المصور الفوتوغرافي الأميركي فرد هولن داي جعلته يتحسس جمالية لغة الأسود والأبيض في طبقات الظل والنور. ثم شعر بهوة بين الشكل والرؤيا. وكان جبران حتى 1904 يجهل أسرار اللون والروابط القائمة بينه وبين حياة الأشكال. لكن ثمة عوامل ساهمت منذ البداية في التكوين الفني لجبران واختياراته مواضيعه، جاءت من طائفة الرسوم التي زيّن بها الكتب والدواوين الشعرية وعكست معرفته بالقياسات اليونانية ونسبها، والجمال المثالي الكلاسيكي ومن اطلاعه على الأدب الانكليزي وتصاوير الكتب الادبية آنذاك وإعجابه بأعمال وليم بليك كشاعر رؤيوي ورسام ونحات، فتأثر بأفكاره الضبابية ذات الينابيع الروحانية. كما تأثر بالميثولوجيات والكتب السماوية وتوقف عند نشأة الكون من مادة هلامية وربما منها اتت اليه فكرة الضباب الذي يرمز الى اللاشكل الذي يتبلور وينعقد بواسطة القدرة الكلية او الذات الكبرى. وبفضل مجتمع بوسطن اطلع جبران على نظريات أفلاطون وتعرف الى نخبة من الشعراء الثائرين فتعاطف مع أفكار أمرسون فيلسوف التعالي ورسول الطبيعة الذي حذر من التعبد للماديات ودعا إلى تنقية النفس من الشهوانية لتصفو فتتحد بالله. وكانت هذه الفلسفات، لا سيما البرهمية والبوذية والكنفوشية والزاردشتية، تنتشر في بوسطن منذ أواسط القرن التاسع عشر. لذلك لم تنفصل أحلامه اللونية عن رغبته بتصوير الوجوه والقامات في مناخ الروحانية الشرقية التي سعى إلى تجسيدها في أدبه وفنه. فكانت مبتغاه الحقيقي. لذلك حين انضم الى أكاديمية جوليان في باريس 1908 - 1910 كان هاجسه الإلمام بالتقنيات والأصول الفنية في سبيل بلورة أسلوبه الفني فأخذ من تيارات الفن ما يتلاءم مع أفكاره وقناعاته. ولم يكترث كثيراً للمدارس الفنية الصاعدة كالانطباعية وما بعد الانطباعية والتنقيطية والتكعيبية والمستقبلية وسواها. اذ كان يعاني من حالة حرمان عاطفي كبير وغربة جعلاه يشعر بكل عذابات الإنسانية. لذلك أحب رودان كاهناً من كهنة الجمال. توقف أمام تماثيله يدرس منابع قوتها وجمالها المتفجرين بالحياة والعواطف. لكن جبران اطلع على موجة الحداثة ورأى فيها - كما كتب إلى ماري هاسكل - "صرخة احتجاج وجوع للحرية". وربما وجد نفسه أكثر في أسلوب "ما قبل الرافائيلية" الذي اشتهر في انكلترا قرابة منتصف القرن التاسع عشر وكان جون راسكن - أحد زعمائها الكبار - عرّفها بالقول بأنه "ليس لهذه المدرسة مبدأ سوى الحقيقة المطلقة التي لا يمكن بلوغها الا بالعمل على أقل التفاصيل ومن خلال الطبيعة والطبيعة وحدها" وراسكن حضّ على معرفة الطبيعة. ولسبب تكوينه العلمي ودراسته الجيولوجيا الأرضية. عبّر عن سحر جيولوجيا الصخور والكهوف وتلافيفها وتكسراتها وتكاوينها. ويُعتبر إدوارد بورن - جونز من أبرز فناني تلك المدرسة إذ قال: "أطمح الى حلم جميل رومنسي. الى شيء لم ولن ينوجد. الى نور أبهى من أي ضوء سبق ورأته العيون. الى مكان لا يمكن لإنسان أن يحدده أو يتذكره بل بوسعه أن يتمناه". في ظل تلك المناخات أخذت موضوعات جبران تتجه نحو روحانيتها الصوفية ورغبتها الرومنسية في التعبير عن حالات انسانية عميقة ترتدي ثوب الطبيعة. أعتقد مثلهم ان الفن يجب ان يقول شيئاً ان يؤدي فكرة او معنى روحياً. فجاءت رسومه منسجمة مع أفكاره الأدبية والفلسفية بل هي شرح تصويري لها. لذلك يمتلك المشهد الطبيعي لدى جبران ظاهراً وباطناً. ولكنه لا يمتلك استقلاليته كموضوع فني. ووجد جبران في مرحلته الباريسية ان اللون هو جسر عبور الرؤيا الى أطيافها البعيدة، وعبور النفس الى شكلها. لذلك يجب ان ينبع من الداخل، من الحياة، من اختلاجة العناصر في الطبيعة وفي كل شيء "في الأكاديمية يُلصق على الشكل لصقاً خارجياً حتى لتظنه عالماً مستقلاً عن الشكل". كما كتب جبران إلى ماري هاسكل في رسائل متتالية تعكس تجاربه في مخاض اللون: "أنا أصور الآن بالألوان. الصراع شديد وجميل في آن. أنا أصارع. على أحدنا أن ينتصر" 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 1908. "ها قد بدأت أعرف كيف أرسم بألوان نظيفة وشفافة وصافية" 7 نيسان/ ابريل 1909. "أقوم بنوع آخر من العمل الفني. عمل يجعلني أفهم طبيعة كل لون على Patetle مِلْوانتي. من الرؤية العلمية للون الى الحالة التي يظهر فيها انه يمتلك طبيعة روحانية بذاته" 30 آذار/ مارس 1910. أسعى لتجريب علاقات لونية جديدة. لا شيء أكثر أهمية من ذلك. إنها تأخذ كل تفكيري. كما انها تجعل المرء يحس بأن العالم حديقة ربيعية" 8 آب/ أغسطس 1910. وشهدت تلك الحقبة على تأثر جبران بأعمال كاريير لما فيها من لغز وضبابية. فآثر الألوان الظلالية كالبني المحروق والبني المائل للاصفرار ولون المَغَرَّة الأصفر Ocre، ومال الى الرمادي لأنه بنظره فوق الألوان، لكنه أحب الأزرق لا سيما الفارسي والمصري، فاستعمله في رسومه كما في كتاباته "الشعلة الزرقاء". ونهج جبران منهج بليك في مجازية التعبير وثنائيته. كلاهما آمن بوجود عالم الروح وبامتياز القلب على العقل وبالجنون باعتباره أعلى درجات التعقل لكن جبران كان رومنسياً أكثر منه سوريالياً وخطوطه لينة وألوانه جانحة نحو الشفافية الضبابية والنورانية بالاضافة الى توليفة للأشكال على هيئة صليب وأجنحة هيولية. وكان نهج من قبل منهج "ليوناردو دافنشي" الذي عرفه منذ حداثته. فانطبع على دقة الإشارة في الرسم ولباقة نشر الظلال وإظهار بواطن النفس عبر سمات الوجوه، لكنه على رغم ذلك لم يكن الا ذاته. اذ كان يتمتع بخيال قوي جعله يتمكن من تجسيد احاسيسه. فعمل الفنان - كما يقول - هو "ضباب مسكوب في صورة". أليس الضباب أو تلك السحابة من الدخان التي تبعث على اللبس والزيغ لأنها تحول دون رؤية واضحة من بعيد، هي سر جبران وهي التي سبق وكرست عبقرية دافنشي وأعطت وجوهه وعذراواته وصخوره وطبيعته المُتَخَيَّلَة، عبق أسرارها ووجودها الملغز الآسر؟ لذلك نجد خطوط جبران سلسة كالتي نجدها في لوحات دافنشي في جوٍ من الهدوء والسكينة والتوازن النفسي الذي يضفي النقاء على الوجوه ويعطيها القداسة والجمال الرقيق. وإذا كان دافنشي صوّر عذراء الصخور بألوان ظلالية داكنة، فإن جبران صورها بصمتها الرخامي منبثقة من صخرة الوجوه المُخَلَّقَة، ومراراً بحنوِّها الأمومي، فاتحة ذراعيها على خلفية صخرية بنفسجية من تلاوين طبيعة بشري. تحولات المنظر الجبراني الطبيعة والانسان لدى جبران مكملان لبعضهما، يربطهما قَدَرٌ واحد الا ان ثمة مراحل تحدد انواع العلاقة وأبعادها في النص التشكيلي وتحولاته الرمزية. بدأ جبران بالبحث عن هوية تلك الطبيعة في زيتيات 1912، من خلال اكتشافه أهمية الدور الذي تلعبه اللمسة اللونية بقوة حركتها وملمسها حين تعصف كدوامة في الخلفية المشهدية للمنظر معطياً اياها القدرة على التعبير والوصف الدرامي للموضوع. ونتبين لوحة اخرى من الاعمال القليلة التي رسم فيها جبران منظراً طبيعياً من الذاكرة يخلو من الانسان ويشهد في آن على اختباراته التلوينية من خلال معالجته لمساحة بلمسة "ما بعد الانطباعية" حيث قرص الشمس مثل دوامة نورانية تشع من الاعماق وينعكس بياضها على صفحة مياه البحر وامتداداً من الضفاف المعشبة للشاطئ مع مزيج الأزرق والوردي والرمادي والبنفسجي والأخضر الميت. فالمنظر يغمره الاضطراب ولا سيما الحركة الدائرية التي تذكرنا بدوامات طبيعة فان كوخ الهوجاء. وتشهد تلك المرحلة على انقلابٍ أسلوبي، باتجاه تسطيحٍ لوني لا أثر فيه لضربة الريشة. إذ الطبيعة فانتازية خاوية وباردة. يكتشف الإنسان عراءها الشاسع، ليجد نفسه متجرداً الا من نوره ضئيلاً ومنعزلاً. وثمة رجل وامرأة مثل آدم وحواء الخليقة، تلاحقهما الخطيئة لتخرجهما من الحب. وخروجهما مثل موضوع "الطرد من الجنة" الذي عالجه مايكل أنجلو ومازاتشيو، له انعكاس المرارة والألم والندم. في زيتيات 1913 يظهر موضوع السنتور والأم والعائلة. ومعها تتضح الملامح الأساسية لطبيعة جبران الجبلية، بخطوطها المتموجة حيث سحب طويلة من الدخان الأسود تشرد في سماء زرقاء - رمادية وجبال خلفية ووهاد أمامية سوّدها جبران عمداً ليفصل بين المسطح الأول أي الموضوع وأبعاده المنظورية. في تلك المناظر الليلية، عبقٌ من نور السماء لا يضاهيه إلا الضوء المنبعث من الأجساد. ومن العدم يأتي طيف الأم ليلاً كأنه من حلم، ليظهر في الطبيعة يراه جبران مبلولاً بالضوء ينشد للأعلى. إنه روح الأم وحضورها الأثيري الذي يرفرف، في أحضان طبيعةٍ هي في غاية الرمزية Allژgorique، يتراءى فيها نوع من التوزيع السينوغرافي المسرحي للأضواء والألوان، عبر حدة التضاد بين النور والظلمة. وهنا يظهر مدى تعلق جبران بالأم - الأرض: "... إخلعوا هذه الأثواب ودلوني عارياً الى قلب الأرض ومددوني ببطء وهدوء على صدر أمي"... هكذا يكبر حجم الشخوص على صخرة الإيمان والحب وترتفع الجبال من خلفهم وتنهض حتى تلامس الفضاء كي تحاكي طبيعة بشري العملاقة، بإحساس بانورامي يستغل كل طاقات المساحة أفقياً وعمودياً وعمقياً. ويحاول جبران في مرحلة 1914 - 1915، ان يدمج بين غنائية الطبيعة ودرامية الموضوع. ضمن تآليف متصالبة تصف أوجاع الانسانية وآلامها وخلاصها. هنا الخطوط الأفقية المتموجة في الطبيعة تتلاءم مع الخطوط الراقصة للأجساد اللينة، وحركة الإنسان تنسجم مع حركة الطبيعة. كما أن الأسلبة التي اعتمدها في بسط اللون وتمويهه ثم التعقيب عليه بالريشة الصغيرة للتدرجات اللونية والتفاصيل تجعل رؤية المنظر تتم من خلال غشاء رقيق كأن بين الحقيقة والوهم. لا شك أن جبران أدرك مقام اللمسة من جراء تأثره بأفكار الانطباعيين في رؤيتهم للطبيعة على أنها قيم لونية وأنوار ساطعة وظلال رجراجة بنفسجية وتدرجات هارمونية لطيفة كأنها موسيقى لونية غنائية. فالنور الذي يمشي على رؤوس الجبال وتكسرات القمم العاتية وأعماق الوديان النائية وسقسقة المياه الجارية. هي مثل جريان الحياة نفسها. الحياة الزائلة. ضمن السياق التصاعدي نفسه، تأتي رسوم "النبي" في مرحلة 1920 - 1923، بنضوج لوني وتقني أكثر أهمية من المراحل السابقة - كما يؤكد جبران نفسه لماري هاسكل بأنه "عمل عليها بكدٍ كبير". وهي عبارة عن مجموعة من اللوحات المائية تتميز بشفافية كبيرة في معالجة العلاقة التبادلية بين الإنسان الذي يحتل الطبيعة قدر ما يبتكرها ويستمد منها حريته وأجنحة خياله والمشهدية الإحتفالية للمناظر عكسها جبران بالمناخ اللوني والنور الضبابي وحركة تلافيف الغيوم وجريان الأنهار. بألوان البنفسجي والرمادي والأزرق الفارسي والأصفر العاجي والبرتقالي، حيث عناق الحب مثل عناق الغيوم وهي تحمل البشائر. ثم تأتي حركة اللمسة العمودية وما يشفُّ عنها من ضربات متلاحقة "هاشورية"، ما يعطي للقشرة الأرضية وطبقات الصخور فيها حركة تكسراتها وملمسها ونسيجها الجيولوجي النافر والغائر والداكن والفاتح. إنها أنشودة الطبيعة التي تحفظ أرواح الغائبين في غلاف جوي كغلالة أو دخان أثيري يتحرك في الأفق. إنه "الأثير الحي" الذي يسفر عن اللطائف من الأرواح التي تؤمه بعد المفارقة. وشدّد جبران على أبعاد هذا الأفق في كتاباته عن الأثير الحي: "هل الصلاة غير اتساع ذاتك في الأثير الحي". في لوحات "النبي" نجد اكثر من فضاء كأن السماء انخفضت لتبتلع البحر أو أن البحر ارتفع ليغمر السماء مع ظهور طريق دوماً يمتد الى السماء الى أعماق الخلود. يترافق ذلك مع حركة ارتقاء من عذاب الأرض الى ملكوت السماء حيث النعمة والبركة. أما البحر في فكر جبران فهو امتداد لا نهائي للأرض - الأم. وهو يمثله في رسمه لأجسادٍ هابطة من أعلى الى بحر الوجود نزولاً حتى يلمس أحدهم صفحة المياه بإصبعه فتتألف الدوائر. يذكرنا بما كتبه جبران في "رمل وزبد": "وأنت أيها البحر الشاسع. أيتها الأم الغافية الحالمة. أنت وحدك السلام والحرية للنهر والجدول. سيدور هذا الجدول دورةً بعد. سيهمس همسة أخيرة في أذن الغابة ومن بعدها آتيكَ قطرةً لا تُحَدّ الى محيط لا يُحَدّ". هنا جبران امتلك تقنيته ومفردات طبيعته شبه الاصطلاحية التي أقرب ما تكون الى ألوان طبيعة بشري، ولكنه وضع فيها أنفاساً روحانية. أشار الى تكوينها السحري الفريد. وقممها الشاهقة وخيوط شلالاتها ونهرها المقدس. لكنه أيضاً أنسن الطبيعة حين أعطى للإنسان حركتها. لا سيما في لوحة "الشلال" حيث تنهمر الأجساد المتألمة كأنها مولودة بفعل الجريان والزبد الناتج عنه. كذلك لوحات الصخور المشكلة سطوحها من أجساد حية تعكس تأثراته بتماثيل رودان. هكذا تبدأ حكاية الأرض التطهرية في دورة فصولها التي لا تنتهي. حين ينبثق جسدٌ ومنه يولد جسد آخر، ذريةً بعضها من بعض في توليف حركي وتتالٍ كسلسلة في طوافها التطهري تغسل خطاياها وترتقي بأجنحة الملائكة. في مراحله الأخيرة 1923 - 1931 نرى جبران الذي تعمَّد في هيكل الطبيعة وعصف برأسه ضبابها وطاف في شِعابها وتاهَ في مداركها. استبدل مظاهرها الواقعية بأخرى متخيلة هي ذروة الرمزية. كأنه نهاية المطاف.. ذلك الكهف الذي يشبه المطهر قبل مرحلة البعث. تهيمن على تلك الرسوم الألوان الترابية والصلصالية والزرقاء مثل أشباح وظلال داكنة، عكست النزعة الإختبارية في فن جبران التي لم تنقطع ولم تَفْتُرْ، مجرّباً تقنية الألوان المائية مع لزاجة "اللافي" Lavis في غسل مسطح الورقة، مع عودة للألوان الظلالية الحميمة والملغزة كالبني المحروق والمغرَّة المصفر، فالنسيج اللوني يساهم في التعبير عن مكانٍ ناءٍ ومتعذِّر، مثل الأرض اليباب المحروقة. أشباح في الخلفية على وشك التلاشي تتقدمها امرأة تجمدت مثل تمثال من ملح الأرض وبلورها ونورها. ولكنها شهقة الألم الأخيرة في حياة جبران. "ألمي ليس ظاهراً. إنه في داخلي ولا أقوى عليه" ولكنها لم تكن النهاية - كما يؤكد معرض متحف سرسق الذي كرّم جبران في موطنه كاشفاً أسرار عبقريته الفنية ليس كرسّام فحسب، بل كملوّن ومجرب ومغيّر ومغامر. هكذا البدء.. كشفٌ لأجنحة محلقة في طبيعة من نور القمر ونثار النجوم. في مناسبة معرض لتكريم جبران في بيروت.