يمر الوقت سريعاً ثم نلتفت فلا نرى أحبابنا؛ لقد غادروا الدنيا وتركونا نشتعل وحدنا دون أن يكون ثمة أمل في عودة تعيد الدفء للأحضان الباردة، ودون أن تذوب تضاريس الفقد ولذة الاشتهاء الأخيرة. في كل رمضان تتذكر وجوه الذين شكلوا أحلى أيام العمر ولياليه، ونحتوا في أذهاننا لذة تجربة الصوم الأول؛ ثم رحلوا كالسحاب المثقل بالمطر والأماني الطيبة، وهاهي أشياؤهم تشهد أنهم مروا من هنا بمنتهى الخصب والامتنان والشكر على كل ما تيسر: سجادة صلاة متواضعة، زاوية في مسجد، وبصمات على مصحف عتيق. أطفال يسيرون حفاة حول حقول خضراء، شمس يبلعها رأس جبل، ورائحة دخان (ميفا) تخرج منه أقراص الخبز الساخن قبل أن يرفع مؤذن القرية بلحيته المُحناة وقلبه الأبيض أحلى أذان؛ ثم إفطار متواضع جداً إلا من الحب والرحمات. أكتب لكم اليوم وذاكراتي المدمرة تحاول ترتيب التفاصيل الصالحة للنشر بشروط عصرنا، وأمامي شاشة تقطر دماً ومواقف فجة؛ فأتذكر حقول القرية في رمضان، وتراتيل الطيبين المعلقين بالله في صلاة التراويح، ثم أحسب المسافة فيأكلني الدمع، وتجلدني المُعاصرة، والوجوه الكالحة بتصنع الترف. اليوم تقتاتنا الحضارة شيئاً فشيئاً فنحن إلى أولئك الطيبين والطيبات، ونصغي في أحلامنا إلى حكاياتهم ومواقفهم التي تختلف كلياً عن أشباه حكاياتنا ومواقفنا، وما أصعب أن تقف على مواقع نجوم رحلت عنك، ولا يزال وهجها يحتل كامل الذاكرة! من عاش رمضان القرية، وأدمن حكايات الجدات، وضخه الطيبون بالشيح والريحان، وتمايل مع أعناق السنابل في بدايات الهمهمة؛ يشعر بالفرق الكبير بين الشرب المباشر من عيون الماء، وبين ما يشربه الآن راكداً من مسافات بعيدة. كل عام وأنتم طيبون.