ما من أحد ينكر أهمية تعزيز الهوية الوطنية بما فيها «الهوية العمرانية» لمدننا بين أفراد المجتمع، من تنمية للشعور بالانتماء، والارتباط الوجداني بهذه الأرض، والفخر بهذه الهوية، والإحساس القوي بالرغبة في استمراريتها، والعمل بإخلاص وتفانٍ على تطوير عناصرها ومكوناتها ذات الأصالة، رأينا ذلك ولمسنا جوانب ونماذج من هذا الاعتزاز بهذه الهوية في الاحتفاء بيوم التأسيس، خلال الأسبوع المنصرم. للأسف الشديد، أن الهوية العمرانية لمدننا آخذة في الاندثار، إن لم تكن اندثرت بالفعل، في كثير من مدننا، وفق رأي عدد ليس بالقليل من المهتمين بإعادة إحياء هذه الهوية والمحافظة عليها، الذي أكاد أجزم أنهم يستحضرون في أذهانهم دوماً، المقولة الشهيرة للمعماري المصري حسن فتحي، من أن تلك الهوية التي يرغبون في استعادتها، هي خير من يعكس المخزون التراثي الخاص بالمجتمع، من الموارد والظروف المناخية والخصوصية الثقافية، وكذلك من يعبر عن وجدانه وتحقيق رغبته الدائمة، في الانتماء والابتكار والإبداع. في كتابها: المدن - العوامل المؤثرة في تشكيلها (Cities - the forces that shape them) تشير ليزا تايلور (Lisa Taylor) إلى أن العوامل المؤثرة في تشكيل المدن بوجه عام تشمل أربعة عوامل هي: الطبوغرافية، المناخ جيولوجية الأرض، والسياسة والاقتصاد، تمثل مجتمعة العوامل الطبيعية والبشرية، إننا حينما نتأمل في إسهام تلك العوامل الأربعة في اندثار الهوية العمرانية لمدننا حالياً، نجد أن ذلك لا يمكن أن تخطئه عين المتابع، فالطبوغرافية المتنوعة التي تتميز بها مواقع مدننا جبلية كانت أم ساحلية أم واحات تطل على ضفاف الأودية لم توظف تلك السمات الطبوغرافية في كثير من مشروعات التطوير التي قامت بها، بل غالباً ما عمدت معداتها الضخمة في إزالة الجبال ودفن الأودية وربما ردم السواحل..!؟ أما عامل المناخ فقد انخدع كثير منا باستسهال تجاوز عقبته بالوسائل الميكانيكية في تكييف الهواء واستخدام مواد العزل المصنعة، في حين أن جيولوجية الأراضي المحيطة بتلك المدن وما تزخر به من مواد بناء محلية وقفت عاجزة عن منافسة مواد البناء المصنعة التي تفد إلى مدننا من أصقاع العالم، لتكتمل دائرة تلك العوامل التي أحاطت بالهوية العمرانية المحلية لمدننا وتحجب عنها إمكانية البقاء ناهيك عن الاستمرار والتطور باشتراطات التخطيط للأراضي وضوابط البناء عليها التي تأخذ طابع العموم في تطبيقها على كافة المدن دون مراعاة للبعد والهوية المحلية التي كان يمكن أن يمثل تنوعها مجتمعة عنصر إثراء للهوية العمرانية الوطنية.