أثار مكامني لكتابة هذه السطور، ما تميزت وتتميز به هذه الصحيفة الغراء من وهج اعلامي، وطرح فريد، ومفهوم راق، تحتضنه أروقتها المبدعة وتقودها همة مفعمة بالتطوير والتجديد. وإن كانت القضايا متنوعة ومتعددة، إلا ان ما لامسه الكاتب القدير حمد القاضي في زاويته «جداول» بالعدد 10833 وتاريخ 15 ربيع الأول 1423ه والذي تناول فيه موضوع «ازدحام المدن الكبرى» لهو أمر بالغ الأهمية، وتكمن أهميته في فحواه التي أبرزت جوانب مؤثرة وهامة تتعلق بمستقبل المدن، واستشهد فيها الكاتب ببحث للدكتور عبدالعزيز الخضيري وكيل وزارة البلديات المساعد لتخطيط المدن.. الخ. ومن واقع ان هذا الموضوع - ازدحام المدن - بات يشغل مساحات كبيرة من دراسات وأبحاث المهتمين بالدراسات العمرانية وتخطيط المدن على مستوى العالم وكونه يضطلع بدور فاعل في تشكيل هوية الحياة البشرية القادمة، فقد وددت أن أسطر تعقيبا متواضعا حول تلك النظرة «السوداوية» لمستقبل المدن الكبرى ومحاولة تجسيد ان المشكلات الحضرية باتت السمة الدائمة لتلك المدن، والتي ظهرت في قول الكاتب «بأن ازدحام المدن الكبرى لدينا وتركيز الجامعات والكليات وأماكن فرص العمل فيها يدق ناقوس الخطر» وأيضا من خلال وصف الباحث لمستقبل المدن بأنه «سيصعب العيش فيها وترتفع فيها معدلات التلوث الجوي والازدحام غير المطاق للسيارات وتتلوث مياهها الجوفية وتصعب ادارتها العمرانية وترتفع فيها معدلات الجريمة، وتضعف علاقاتها الاجتماعية ويعيش سكانها غرباء». وان كنت أتفق معهما في هذين الوصفين إلا أنني أرى ان التركيز على المشكلات الحضرية وابرازها بهذه الصورة يجعلنا نبخس حق هذه المدن الكبرى ويعني تجاهلنا لذلك النبع العميق من الطموح والكبرياء والاصرار على حياة عصرية متنوعة داخل تلك المدن التي كانت ولا زالت مهدا لابداعات الحضارة وطموحاتها، حيث ان تلك المشكلات الحضرية ليست السمة الحقيقية لها بل كانت نتيجة حتمية لفشل مجتمعاتنا «إدارة وأفرادا وجماعات» في التعامل الايجابي مع النمو المفاجىء للمدن «Sudden Growth» والتطور غير المتوقع «Unfold devel opments» مما أدى الى فقد الانسجام «Harmonious» لهذه المدن وانعدام التناسق بين أجزائها ووظائفها وعدم القدرة على التعامل مع المدن على أنها مكان أمثل لحياة سوية. وإذا ما نظرنا الى الاحصائية التي نشرت من خلال دراسة عن المدن المستدامة على شبكة الانترنت بالموقع www.Sustainabl-cities.shtm سنجد ان «نسبة سكان العالم الذين يقطنون المدن عام 1800م أقل من 2%، لتصل بحلول عام 1970م الى 35%، ثم الى 50% عام 2000م، وبحلول عام 2015م سيضم العالم 27 مدينة يزيد سكانها على العشرة ملايين نسمة منها «22» مدينة في الدولة النامية» أي ان المدن الضخمة ستكون الخيار القادم لملايين البشر الطامحين لحياة حضرية متنوعة، وربما تكون هذه المدن المكان الأمثل والذي يمكن فيه حل العديد من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، لا المكان الذي تبرز فيه أسواء العواقب إذا ما عملنا بمبدأ الوقاية خير من العلاج وتعاملنا مع «التخطيط العمراني» على انه «احساس» و«روح» و«فن» قبل ان يكون علما تجريديا تسيره الأرقام وزوايا التنظيم. والتنمية الريفية «Development of Rural Area» ورغم انها لازالت الخيار البديل لتقليص حجم المشكلات الحضرية إلا أنها ستكون طريقا سهلا لاستنزاف الموارد وهدر الطاقات إذا لم تكن محددة وموجهة الى مراكز نمو «منتجة» تمتلك المقومات الأساسية التي تؤهلها للتنمية شريطة ان يعتمد على أساس منح كل مجتمع عمراني «مؤهل» تخصصا وظيفيا محدداً «Function of Settlement» يراعي الآثار الاجتماعية وتركيبة المجتمع «Structural Charac terisitic» وذلك لخلق تقارب معياري بين نصيب الفرد من تكلفة الخدمة مقارنة بالكثافة السكانية ومستوى الانتاج «المحلي» وان كانت برامج الأممالمتحدة تدعو الى «أهمية الحد من المدن المليونية والتأكيد على أهمية المدن المتوسطة الصغيرة ودعم تنمية المناطق الريفية» فإن ذلك سيساهم وبشكل كبير في تحقيق التوازن السكاني بين الأقاليم، إلا انه قد يكون «نواه» جديدة لمدن أكثر تعقيدا قد تطل علينا مطلع القرن الجديد إذا ما بقي فشلنا في خلق «سياسات عمرانية مناسبة» و«مجتمع مدني على قدر من الوعي والادراك»، ولعل الاستراتيجية الوطنية العمرانية التي أعدتها وزارة الشؤون البلدية والقروية مؤخرا تعتبر الوجه الحقيقي للصورة المثالية لنمطية التطوير الموجه ونواة العمل المنظم في خطوة لقيادة التنمية نحو مستقبل أكثر اشراقا. العالم والمفكر «F.C.Turner» يقول:«إذا ما كنا نريد ان نسيّر كائنا مركبا ومعقدا جدا مثل المدينة، فيجب علينا انشاء جهاز اداري وتخطيطي وتنفيذي لا يقل عن ذلك الكائن تعقيدا وتركيبا» ولكن الادارة الجيدة وحدها لا تكفي لبناء مدن صالحة للعيش بل ان الدور الفاعل يقع على عاتق المجتمع أفرادا وجماعات لاستشعار روح المشاركة والانتماء والتطوير الفاعل والايجابي تجاه قضايا مدينتهم والتزامهم بالقوانين والتشريعات وأخذ زمام المبادرة في العمل الجماعي من مبدأ «ان مدينة الانسان لا يصنعها إلا الانسان» فمثلا لو تفاعل أفراد المجتمع مع النقل العام والتزم الجميع بأنظمة وقواعد المرور، وقننت الرحلات داخل المدينة، وخفضت نسبة امتلاك السيارة للفرد، لساهم ذلك في الحد من ازدحام السيارات، ولو التزمت المصانع والشركات والمؤسسات بمبادىء وشروط التصنيع وقوانين استخدامات الأرض، واعادة التدوير لقلت نسبة التلوث الجوي، ولو قامت كل أسرة بمراجعة السياسة الاستهلاكية الفعلية من أطعمة ومستلزمات وخلافه وفق احتياجاتها الفعلية لانخفضت أطنان النفايات المنزلية المخرجة، ولو ساهم أهل الحي أو المجاورة السكنية في تنظيف شوارعهم وصيانة أرصفتهم وتشجيرها وقامت المدارس والجهات التربوية بتوعية النشء على أهمية الحفاظ على المنجزات الحضرية لتحسن الشكل العمراني للمدينة وخفضت التكاليف الباهظة لصيانة المدن. وغيرها من الأمثلة التي توضح الدورالمهم للمجتمع «أفرادا وجماعات» في وأد العديد من المشكلات الحضرية قبل ظهورها، وليس ذلك فحسب بل ان المردود الايجابي من قبل أفراد المجتمع يشجع «ادارة المدينة» ان تكون أكثر طموحا وحماسا في بذل المزيد من الجهد للتطوير والتجديد والتفاعل مع متطلبات المدينة. ما أريد قوله هو ان المدينة لازالت المكان الأفضل القادر على الايفاء باحتياجات الحياة العصرية الجديدة لاسيما في زمن «العالم المفتوح» والذي يعتمد على مبدأ التنويع والتكامل الخدمي ولدينا حصيلة تجارب ثمينة قادها مبدعون أوائل سعوا الى ايجاد مدينة مثالية «Idealistic City» أمثال المهندس العالمي «الكوربيزيه» في كتابه «The City of Tomorrow» وتجربة المخطط الانجليزية «ابتزرهاورد» في المدينة الحدائقية «Gardan city» والمخطط ريموندانوين في تجربة المدن التابعة «Satelitte Towns» وغيرهم ممن يجدر بنا ان نستفيد من تجاربهم ونطورها ونصيغ بها أفكارا تتلاءم مع نمط الحياة التي نعيشها وتجسيد هويتنا العربية والاسلامية وكذلك مراعاة الجوانب التفصيلية في تنويع المخططات والتصاميم العمرانية الخاصة بتخطيط الأحياء والمجاورات السكنية والبعد عن الأفكار المستنسخة وذلك بما يتوافق مع طبيعة الظروف المكانية والاجتماعية والاقتصادية وخلافها من العناصر المحددة لنوعية هذا التخطيط. وإذا ما أردنا الوصول الى ذلك فعلينا ان نضع الخطط والاستراتيجيات المقرونة بآليات التنفيذ «الفاعلة» والتي تكفل لنا تحقيق هذه الخطط وتفعيلها على أرض الواقع، ويجب علينا ان نفتح الطريق أمام الأبحاث والدراسات العلمية المتخصصة وان نثري حياتنا العملية بمزيد من النقاش والندوات والمؤتمرات، وان نضع الخطط والبرامج اللازمة لايجاد «أجهزة» ادارية وتخطيطية وتنفيذية ذات كفاءة قادرة على القيام بمهام التطوير والانماء، والتركيز على «تأهيل» الكوادر البشرية العاملة في هذا المجال تأهيلا دقيقا في مختلف التخصصات العلمية وتكثيف الجوانب التدريبية والعملية. وكذلك الرفع من مستوى مرونة وتفاعل القوانين والتشريعات مع المتغيرات العصرية، وعلينا ان نجلب الخبرات والتجارب العالمية، وان نطور المناهج المتعلقة بالدراسات العمرانية وتخطيط المدن واعطاء مساحة أكبر للأكاديميين وأساتذة الجامعة في طرح أفكارهم ورؤاهم في البناء والتطوير، وعلى مجتمعاتنا «أفرادا وجماعات» ان تستشعر بأهمية ذلك وان تعمل بجد واجتهاد وان تبذل كل ما في وسعها لتطوير عقليات أفرادها والرقي بمستوى الوعي والادراك والتحضر والتجرد من الرؤى والعادات والأفكار السلبية وان تنفض غبار الماضي، لأن المجتمعات المتحضرة وحدها القادرة على النهوض ببنيتها العمرانية، بدلا من ان نهرب من المدن ونخلق مدن أخرى، فالعالم المتطور لا ينتظر أحداً.. ختاماً اسمحوا لي مرة أخرى ان أسجل اعجابي بما لامسه كاتبنا القدير الأستاذ أحمد القاضي وأمنيتي ان يحظى «تخطيط المدن» بمساحات أكبر في ردهات هذه الجريدة الغراء والتي تأبى دائما إلا ان تتبوأ موقع الريادة. [email protected]