لست أريد أن نعيش الفقر، أو أن أزهّد الناس في رغد العيش ونعيمه، أو أن أهدهدهم حتى لا يشكوا من الغلاء والفواتير، لا، ولكني أريد أن أنبّه العقول الغافلة إلى أننا لا نشكوا في الغالب إلا من التذمر والملل، وإلا فإن أكثرنا يعيش عيشة لم يهنأ بنصفها هارون الرشيد.. هي قصة صحت عن سيد البشرية، بل سيد الخلق كلهم، صلى الله عليه وآله وسلم، ومعه صاحباه الشيخان الراشدان الصديق والفاروق، رضي الله عنهما. وهذان من كان لهما سبق النصرة والمؤازرة في نشر هذا الدين وإقامة بنيانه بعون الله وتوفيقه، ثم ببذل الصحب الكرام، وتضحياتهم، وجهادهم. سأسرد لكم القصة، ولعلي لا أطيل التعليق عليها، ولكني سأوجه قرن استشعار للحال التي نعيشها ونتذمر منها، لكي يلتقط كل منكم أهم فوائدها، وأكبر عبرها، ثم ينزلها على حاله، وواقعه. خرج رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذاتَ يومٍ أو ليلةٍ، فإذا هو بأبي بكرٍ وعمرَ ، فقال: (ما أخرجكما من بيوتِكما هذه الساعةَ ؟)، قالا: الجوعُ، يا رسولَ اللهِ! قال: وأنا، والذي نفسي بيده، لأخرجَني الذي أخرجَكما، قوموا، فقاموا معه، فأتى رجلًا من الأنصارِ، فإذا هو ليس في بيتِه، فلما رأته المرأةُ، قالت: مرحبًا! وأهلًا! فقال لها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ: أين فلانٌ؟، قالت: ذهب يستعذِبُ لنا من الماءِ، إذ جاء الأنصاريُّ فنظر إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وصاحبَيه، ثم قال: الحمد للهِ، ما أحدٌ اليومَ أكرمُ أضيافًا مِنِّي، قال: فانطلق فجاءهم بعذقٍ فيه بُسرٌ وتمرٌ ورطبٌ، فقال: كلوا من هذه، وأخذ المُديةَ، فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إياك والحَلوبَ. فذبح لهم، فأكلوا من الشاةِ، ومن ذلك العِذقِ، وشربوا. فلما أن شبِعوا ورَوَوْا، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأبي بكرٍ وعمرَ: والذي نفسي بيده لتُسأَلُنَّ عن هذا النعيمِ يومَ القيامةِ، أخرجَكم من بيوتِكم الجوعُ ثم لم ترجِعوا حتى أصابَكم هذا النَّعيمُ. وفي عصرنا يصرف الناس مئات الألوف من الريالات في عمليات قص المعدة وتكميمها، ولم يعد مكيف الشباك يقنعنا، ولا نقنع بمياه البلدية حتى نرتوي من مياه معبأة نشتريها بحر مالنا! ومن يرى حالنا يظن أننا خلقنا لنأكل، لا أن الواجب أن نأكل لنحيا! ولست أريد أن نعيش الفقر، أو أن أزهّد الناس في رغد العيش ونعيمه، أو أن أهدهدهم حتى لا يشكوا من الغلاء والفواتير، لا، ولكني أريد أن أنبّه العقول الغافلة إلى أننا لا نشكوا في الغالب إلا من التذمر والملل، وإلا فإن أكثرنا يعيش عيشة لم يهنأ بنصفها هارون الرشيد، ولا كثير من خلفاء المسلمين، بل ولا صحابة سيد المرسلين، رضي الله عنهم، من وافر الفراش، ولذيذ الطعام، وبارد الهواء، وسهولة السفر والتنقل، وتيسر طلب العلم، والبحث والمدارسة، كل منّا في يده جهاز يحمل كل أعماله تقريباً، يستخرج بها جوازاً، وهوية، ويحول بها مالاً، ويسدد بها حساباً، وديناً، وقل ما شيت من خدمات مرفهة عظيمة، ما أجله من نعيم! ولم نذهب إلى الخلفاء في الماضي، وقد عاش الأجداد القريبون منا شظف العيش وقلة المال، وتغرب الكثيرون بحثاً عن لقمة! ثم ماذا؟ صرنا نشتكي لا من قلة الرزق، ولا من قلة النِّعم، فالمشتكي من المادة غالباً لا يحسن تقنينها، ولا يريد ترشيدها، فهو مصر على السفر في كل عطلة، مصر على ركوب أفخم السيارات، واستئجار أجمل الاستراحات، والنزل في أفخم الفنادق، والأكل شبه اليومي من المطاعم، أو فيها. وليس في كلامي ما يدعو إلى أن لا تتمتع بما أنعم الله عليك، ولكني أريد أن أذكرك بشكر الله، وعدم استصغار واحتقار ما يلفك من نعمة الله، فإن كان هناك ضيق في باب فأبواب كثيرة قد فتحت، والرزق مكفول عند الرزاق ذي القوة المتين جل جلاله، فارع نعمته، واشكرها، «وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم». وعوضاً عن التذمر والشكوى ابحث عن حلول، وتنازل عن أشياء لو فكرت فيها لوجدتها مما ينهك ميزانيتك، ويثقل كاهلك، ويمكنك الاستغناء عنها، بالكلية، أو بالتقنين، والتقليل، فتش في ثنايا حياتك واستعن بالله، وذكرها بأن نبيك وحبيبك صلى الله عليه وآله وسلم، قد خرج يوماً من بيته، أخرجه الجوع، وأنت تستطيع أن تطلب الطعام بضغطة على شاشة جوالك، فيأتيك لا تخرج من بيتك، في أي ساعة من ليل أو نهار. هذا، والله من وراء القصد.