صحافة الأفراد في وطننا صنعت روّاداً في الصحافة السعودية سواء كانوا رؤساء تحرير أو نواباً أو كتّاباً، فمنذ عهد الملك عبدالعزيز -رحمه الله- ثم الملك سعود -رحمه الله- صدرت صحف يومية وشهرية نجحت بامتياز فردي، وقد تألفت الصحافة السعودية في هذه البدايات وبرز في هذا العهد الذهبي للصحافة أفذاذ أثبتوا قدراتهم، مع أن أكثرهم لم يتلق تعليماً إعلامياً جامعياً، بل كتبوا وحرروا عن طريق الممارسة ثم حبهم لهذه المهنة وتعلقهم بها، يذكر د. بكري شيخ أمين في كتابه القيم (الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية) أنه منذ 1343ه حتى صدور نظام المؤسسات الصحفية صدر ثلاث وثلاثون صحيفة ومجلة في أرجاء المملكة. ومن صحافة الأفراد اشتهر كاتب ورائد صحفي عريق في الكتابة الصحفية هو ناصر بن سليمان العمري -رحمه الله- الذي كتب في معظم الصحف والمجلات أبان صحافة الأفراد وصحافة المؤسسات، وفي هذا التقرير نكتب عن رحلة هذه الشخصية الرائدة. وُلد الإداري التربوي والصحفي ناصر بن سليمان العمري في بريدة عام 1345ه، يقول عن دراسته في اللقاء الذي أجرته مجلة اليمامة: درست في أحد الكتاتيب ببريدة، والمعلمون هم والدي سليمان بن محمد العمري يدرسني في المنزل وفي محله التجاري، ومحمد الصالح الوهيبي في مدرسة خاصة، وعبدالله بن إبراهيم بن سليم مدير المدرسة الحكومية الأولى، وأخي صالح بن سليمان العمري معاون مدير المدرسة الابتدائية ثم معتمد المعارف، وقد سرد عدة أسماء معلمين استفاد منهم وتلقى عنهم العلم وحصل منهم علوماً وفوائد شرعية ولغوية وأدبية وحسابية. ممارسة التجارة مارس ناصر العمري -رحمه الله- التجارة في سن صغيرة جداً ولا عجب، فوالده كان من تجار بريدة، يقول في سيرته عبر لقاء في مجلة القصيم: عملت بالتجارة وأنا طفل وفتحت محلاً تجارياً شمال جامع بريدة أبيع الأقمشة ثم سافرت إلى الرياض وكان عندي محل تجاري وأنا صغير، وأكتب للناس الرسائل بالأجرة في المحل الذي أمارس فيه التجارة، ثم عدت إلى بريدة ودخلت المدرسة الحكومية ودرست فيها. وواصل العمري إعادة شريط ذكرياته وتصفح سجلات تاريخ حياته قائلاً عبر لقاء أجرته مجلة القصيم وأعاد نشر هذا اللقاء ابنه الباحث ماجد العمري في كتاب أعده عن والده بعنوان (ذكريات ناصر بن سليمان العمري): رجعت إلى الرياض مرة أخرى وعملت موظفاً حكومياً ورئيس كتاب هيئة التموين بالرياض، ولما انتهى التموين عملت في مالية الرياض كاتب يومية ثم تعينت بوزارة المالية مفتشاً، ويستطرد حديثه عن محطات حياته في هذه الدنيا قائلاً: ثم عملت بإمارة جازان بناء على طلب أمير منطقة جازان من سنة 1367ه حتى عام 1369ه. عمل تربوي وناصر العمري -رحمه الله- من رواد الصحافة وفرسانها أبان صحافة الأفراد وما بعدها، إلاّ أنه كذلك من رواد التعليم وأحد المربين الذين أسهموا بشكل مؤثر في الحركة التربوية والتعليمية، فقد تعيّن عام 1369ه متعاوناً لمدير مدرسة الفيصلية ببريدة ومعنى معاون أي بمثابة وكيل المدرسة، ثم أصبح مدير مدرسة، وفي هذه المرحلة التربوية التعليمية كان له تلاميذ تلقوا عنه العلم والتربية وترسيخ الأخلاق في نفوس الناشئة آنذاك، فالمربي ناصر صاحب قيم ومبادئ وأخلاق فاضلة طبقها فعلياً على نفسه، فهو المُعلم القدوة الحسنة لتلاميذه بل لزملائه، فغرس الأخلاق كانت من أساسيات هذا الرجل المربي المخلص الصادق الذي أعطى في مسيرته التعليمية والتربوية ما يقدر عليه نحو تلاميذه أو ما كلف به من أمور إدارية، حيث جعل مهنة التعليم رسالة من أسمى وأجل الأعمال، لقد حمل العمري هذه الرسالة بقدرة وكفاءة وتفانٍ، وكان في ذلك الوقت لا يزال شاباً يعطي بكل ما منحه الله من مواهب لهؤلاء التلاميذ، وينتقل إلى مؤسسة تربوية تعليمية مهمة وحساسة هي مؤسسة دار الأيتام التي تأسست في عهد الملك سعود -رحمه الله- ويذكر أنه تعين في عام 1376ه وطبيعة عمله مفتش في هذه الدور، وكان في كل دار مدرسة وقسم داخلي، ثم بعد هذه المناصب التربوية التعليمية انتقل إلى وزارة المواصلات بمنصب كبير المفتشين وهذا المنصب هو آخر منصب له في الوظائف الحكومية. مع الملك عبدالعزيز وروى ناصر العمري -رحمه الله- بعضاً من أيامه الماضية وشواهد مما وقع له شخصياً وحدث له في تلك السنين، يقول في اللقاء الذي أجرته مجلة اليمامة: ولي موقف مع الملك عبدالعزيز -رحمه الله- يدل على حلمه وسعت تفكيره وحبه للخير للناس، فقد كانت حالة القصيم في الرياض غرب مسيل البطحاء وأمر سكانها بالرحيل منها لإزالتها، وقد جاء إليّ إمام مسجدها ابن خليفة وابن نصبان وابن دحمان وغيرهم من سكان الحارة وأخذوا رأيي في الموضوع، ولم أكن من سكان الحارة إلى أن قال: فأبرقت للملك عبدالعزيز وكان في البر وقتها ورد على البرقية الموقعة باسمي، فكتبت له أخرى واستمر الحوار مع الملك عبدالعزيز برقياً، وكانت البرقيات التي أكتبها صريحة وقوية وقد شجعني على ذلك معرفتي بحب الملك عبدالعزيز لأبناء وطنه، وانتهى الموضوع بنزع ملكية بيوت الحارة وتعويضهم، وهذا أول نزع ملكي في الرياض، وقد طلب الملك عبدالعزيز وضع الحلول للموضوع، فاخترت تقدير ثمن المساكن وتعويض أهلها وإعطاءهم أرضاً بنوا عليها منازل جديدة، وبناء مسجد لهم في الحارة الجديدة «حلة القصمان» وحفر بئر يشربون منه، ووافق الملك على جميع الاقتراحات وقال: اختاروا الأرض التي تريدون، فطلبنا الأرض التي تقع شمال القلعة. وهذه من الأعمال الخيرة التي وفق فيها ناصر العمري التي تحسب له كمنجز في ذاك الزمن، وهذه حسنة كبرى له في إيجاد بديل لمساكن هؤلاء الناس الذين لا يملكون في هذه الدنيا إلاّ مساكنهم الطينية، فكان أن اقترح على المؤسس أن يوجد لهم البديل والتعويض عن مساكهم فأخذوا العوض المالي من الملك المؤسس والأرض حتى يشيدون بهذا التعويض مساكن وهو ما عرف لاحقاً بحلة القصمان شرق شارع البطحاء. إسقاط القروض وهناك موقف آخر مع الملك عبدالعزيز -رحمه الله- حيث قال ناصر العمري -رحمه الله-: كُلّفت باستحصال القروض عند المزارعين في عام 1363ه بمنطقة القصيم ولم يكن الملك انتدبني، ومع ذلك لما علم بقيامي بهذه المهمة وعند عودتي إلى الرياض أمر مدير شرطة الرياض علي أن يبلغني بالحضور بين يدي الملك عبدالعزيز في قصر الصفاة وحضرت أمامه في القصر، وسألني عن القروض التي عند المزارعين فعرضت عليه ما حصل، وبعد انتهاء أسئلته وإجابتي تفضل المؤسس بدعوة محمد بن دغيثر المسؤول عن البرقيات وأملى عليه الملك المؤسس برقية لأمير بريدة بأن الملك تنازل عن القروض التي عند المزارعين، وهنا كان ناصر العمري سبباً في إعفاء الملك المؤسس عن القروض التي على المزارعين في القصيم وجميع مناطق المملكة. صالح عام ونال ناصر العمري -رحمه الله- شهرة بقلمه، والذي استخدمه للصالح العام وفيما يفيد وينفع المجتمع، فقد سخر قلمه الصحفي لكل ما من شأنه يرجع إلى الوطن والمواطن بالخير، طارحاً آراءه ومقترحاته في جميع الصحف المحلية، إضافةً إلى النقد البناء الذي يبني ولا يهدم؛ لأنه يعلم علم اليقين أن الكتابة في الصحافة مسؤولية وليست الصحافة لنيل مآرب وأغراض شخصية أو لمدح فلان، فهو يكتب لهدف جعله أمامه ونصب عينيه ألا وهو الكتابة لأجل الصالح العام وليس الصالح الخاص المحدود، هكذا بدأ أول مقالة كتبها في الصحافة حتى آخر مقالة له، فالعمري لديه ثوابت من قيم وأخلاق وقبل ذلك دينه ثم ضميره اللذان يسيطران على قلمه الصحفي. وتنبأ عبدالله عريف -رئيس تحرير صحيفة البلاد السعودية- للعمري له حيث قال له: أنت سبقت عصرك بمائة عام، وسوف تتعب كثيراً، والجدير بالذكر أن بدايات العمري كانت في صحيفة البلاد السعودية، وتحدث عن الكتابة الصحفية التي كانت من همومه في الحياة قائلاً: تشكل المقالة متنفساً لي، واستطعت خلالها مناقشة وطرح قضايا تهم وطني وتهم شعبي، كانت هذه المقالات عيناً للمسؤولين يرون من خلالها بعض الملاحظات ويتكرمون بمعالجتها. صحيفة القصيم وأسّس صالح بن سليمان العمري -شقيق ناصر العمري- صحيفة القصيم مطلع الثمانينات الهجرية، فكان ناصر الساعد الأيمن لأخيه في هذه الصحيفة الرائدة التي تعد أول صحيفة في منطقة القصيم في عهد الصحافة الفردية واستمرت الصحيفة حتى عام 1383ه، ويورد الباحث ماجد العمري نماذج من مقالات والده بصحيفة القصيم في كتاب ذكريات والده، فمن هذه المقالات عنوان مقال صادرات القصيم والمقصود الصادرات الزراعية، وعنوان آخر لمن الثروة الضائعة؟ وهو يقصد السيارات التي استغنى أصحابها ثم بدؤوا بتفكيكها إلى أجزاء وبيعها ثم تركها خارج المدن في الضواحي، مقترحاً إنشاء وتأسيس مصنع للسيارات، ولعله من أوائل المقترحات في الصحافة السعودية آنذاك، وكتب مقالات بعنوان مستشفيات الرياض، مقترحاً إنشاء عدة مستشفيات في الرياض، ومستشفى للسل، ومستشفى لأمراض العيون، ومستشفى للأمراض الصدرية، ومستشفى للأمراض العقلية وقد تحققت كلها فيما بعد. هذه بعض الهموم الوطنية التي كانت هي هم وتفكير الكاتب الصحفي والمواطن الصادق ناصر العمري الذي احترم القارئ فيما يكتب فاحترمه القراء، وأصبحت له شعبية تتابع ما يكتب في صحيفة القصيم خاصةً وما قبل صحيفة القصيم وما بعدها. ومن جانب آخر، فإن ناصر العمري تولى إدارة تحرير مجلة الجزيرة التي أسسها الشيخ عبدالله خميس وكتب فيها مقالات. رواية التاريخ وناصر العمري -رحمه الله- رواية للأخبار والقصص والحكايات، خاصةً ما يتعلق بتاريخ نجد وتاريخ الدولة السعودية، وهذا ما نقرؤه في كتابه القيم والممتع والنفيس (لمحات عربية)، فهذا كتاب حوى جمهرة من القصص والمواقف ذات مدلول أخلاقي عن العرب في نجد والجزيرة العربية، حشد فيه قصصاً سمعها من أناس حدثت لهم، أو من سمعها من رجال سمعوها لمن حدثت لهم، واعتقد أن العمري يتحرى الصدق والمصداقية في هذه القصص، متأكداً من صحتها، وليس مجرد قصص خيالية مسلية أو أساطير شعبية، يقول عن هذا الكتاب الباحث عبدالمجيد بن محمد العمري: هو كتاب متميز في فنه وأصبح مرجعاً للباحثين والمؤرخين لتاريخ المملكة ويحكي قصصاً عن تاريخ بريدة والعقيلات والكثير من الأسر والقبائل، ويحوى العديد من القصص والأخبار التي تعزز القيم والشهامة ومكارم الأخلاق.. إلخ، حقاً الكتاب تحفة بديعة ضمت قصصاً لو لم ينشرها الراوية والمؤرخ ناصر العمري ويدونها في كتابه هذا لذهبت وضاعت كما ضاع الكثير من التراث القصصي بسبب عدم التدوين وبموت رواته، وهذا الكتاب أشرف على طبعته الأولى الباحث عبدالمجيد العمري كما أخبرني. ختام المطاف وتوفي الرائد الصحفي ناصر بن سليمان العمري بتاريخ الثاني عشر من شهر ربيع الأول لعام 1435ه، عن عمر 94 عاماً، وقد كتب عنه بعض من يعرفه من أصدقاء وتلاميذ ومحبين في الصحف المحلية وأبرزوا مآثره ومناقبه وما قدمه لوطنه ومجتمعه من خدمات وما خطه بقلمه دفاعاً عن الحق وما يراه هو صواباً وصحيحاً؛ لأنه - رحمه الله - يؤمن بما يقوله ويكتبه فباطنه وظاهره سواء وليس ممن يميل حيث مال الناس، أو يكتب ما يوافق هذا أو ذاك، كان الصدق في الكلمة هو منهجه وطريقته وخطه الذي لا يتزحزح عنه مهما كانت الظروف والأحوال، وقد جلبت له صراحته في مقالاته التي كتبها بعضاً من المشاكل والمتاعب، لكنه لم يبال ما دام أنه مؤمن أن الكلمة الصادقة هي التي تبقى ولها الأثر الطيب. أشكر عبدالمجيد العمري الذي أمدني بمعلومات عن عمه وكتاب ملامح عربية، وكذلك الشكر موصول لماجد بن ناصر العمري الذي أمدني بكتابه عن والده وذكرياته الحافلة بحوارات أجريت مع والده ونماذج من مقالاته والمقالات التي كتبت عنه بعد وفاته. ناصر بن سليمان العمري -رحمه الله- نموذج من صحيفة القصيم التي كتب فيها ناصر العمري مجلة الجزيرة التي كان ناصر العمري مدير تحريرها كتاب ملاحم عربية لناصر العمري إعداد- صلاح الزامل