كانت لي زميلة في الدراسة قليلة الكلام رزينة الحضور فإذا ضحك الجميع وجدتها تبتسم وإذا طرح أمر للمناقشة لم تنطق برأيها حتى يفرغ الجميع خاصة وأن الآراء في البداية يخلطها فوضى وضجيج نتيجة التفاعل بطرح الرأي وعندما تنطق برأيها تسمع العجب العجاب وكيف لديها من حكمة ومنطق يقنع أغلب الموجودين وقد احببت هذا النوع من صمتها، الصمت الذي يزيد صاحبه هيبة ووقارا، الصمت الذي يجعل من صاحبه ذا رأي سديد وعقل حكيم يعرف متى يستنطق ومتى يصمت. فتأملت في الصمت وما فيه من مزايا عظيمة لأنك تتعذر معرفة عقلية الصامت وهو صامت وكما قالوا: عقل المرء خلف لسانه. وفي قصة طريفة يقول فيها طاهر بن أحمد الربيري: كان يجلس إلى أبي يوسف رجل يطيل الصمت فقال له أبو يوسف: ألا تتكلم؟ فقال: بلى. متى يفطر الصائم؟ فقال: إذا غابت الشمس. فقال: فإن لم تغب إلى نصف الليل؟! فضحك أبو يوسف وقال: أصبت في صمتك وأخطأت أنا في استدعاء نطقك ثم قال: عجبت لإزراء الغبي بنفسه وصمت الذي قد كان بالقول أعلما وفي الصمت ستر للغبي وإنما صحيفة لب المرء أن يتكلما فالصمت يحول في كثير من المواقف دون صاحبه بل يقيه من أن يكون شريحة تتبادلها ألسنة الناس بأساليب مختلفة والعقلاء من يحرصون على التزام السكوت وانتهاج الصمت. والاستغناء عن الاعتذار للآخرين فالنقد والقدح ما هو ألا نتيجة فلتة لسان لم يحسب لها حساب. فالصمت فضيلة فهو: عبادة من غير عناء، وزينة من غير حلي، وهيبة من غير سلطان، وحصن من غير حافظ، وفيه راحة للكرام الكاتبين "الملائكة"، وستر لعيوب الصامت واثراء للعقل. يقول مصطفى لطفي المنفلوطي "أول العلم الصمت والثاني حسن الاستماع والثالث حفظه والرابع العمل به والخامس نشره". والصمت لا يكون في كل أحوال الإنسان فثمة وقت وحال يستوجب من المرء الكلام.. وكما يقال لكل مقام مقال. يقول بنجامين فرانكلين "تعظنا النملة دون أن تنبس بكلمة".