مما اشتهر من القول، فتصارخت صيحاته عبر أجيال من البشر، يحضرني الآن وعند قيام ذاكرتي الحسية الانفعالية بمسح واقعي بسيط لعلاقاتنا، ونقاشاتنا، وأسباب انقسامنا أحياناً، قول: «اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية»، في واقع الأمر، يخفي قائل القول المستند لصاحب رؤية فكرية حسب ما يمكن استنباطه، لكن يرتقي القول إلى الحد من الخلاف عند التصريح بالرأي، مع صون الحق في الاختلاف الذي لا يصل إلى حد أن يحاك منه خلاف شخصي، بل تقابل آراء وأضدادها، لأن الاختلاف منبت فطري في البشرية، وأننا نفتقد أدب الخلاف مجتمعياً وفكرياً وثقافياً. للمتمعن في القول أعلاه حصة من الإدراك، ومن ثم التنفيس بتنهيدة إلى ما وصل إليه حال نقاشاتنا، وفي كل الميادين: فرض رأي وحصار، أنا سديد وغيري على خطأ، من يخالفني الرأي يعاديني.. إلى آخره، مما يزيد حصيلة الخسائر القيمية التي تتواصل في تدحرجها نحو الخلف بعيداً عن تراثنا الإسلامي الحضاري. يغيب عن أذهاننا التي أصمتناها خلف تراهات استحدثت فضربت بعقل المنطق جذور الفكر السليم أن اختلاف الرأي إن دل على شيء فإنه يدل على ثراء منا وفينا، في أنماط تفكيرنا، وتنشئتنا، وطرق استنباطنا، اختلاف هو أشبه بكرات صوف ملونة، يغزل منها أحلى الثياب، لتزين زركشة ألوان محيا وبدن من يلبسها. فالاختلاف في الرأي نتيجة حتمية لاختلاف العقول، بما يصنع ثقافة تنافس في تنوعها ألعاباً نارية يتصاعد بريقها عنان السماء لتعانق الظلام الدامس، معلنة بهجة وروية وتقبلاً وتعقلاً. حري بنا إذاً التساؤل والاستفسار أين نسفنا بعناد وتصميم في غير محله منطق الاختلاف أصل الحياة؟ اعتلت تلك الغمامة نواصينا ومراكز ذاكرتنا، فأصبح الاختلاف من مسلمات الخلاف، بل ومن أحدث صيحات افتعال الخصومات، فمن يبغي للمجد الزائف والشهرة طريقاً، يعتلي صهوة الاختلاف ويغذي منبته، ومن أراد أن يصنع حرباً باقية آثارها ممتدة امتداد الأجيال، يمتطي موجة جدال سببه الاختلاف. عقلاء الأمة لطالما نظروا لنظرية الرأي الواحد السديد دوناً عن غيره، علامات من نرجسية استوحشت بصاحبها لتلتهم قلبه وعقله، وتحوله لكاسر يكسر في طريقه كل من يضاهيه بالقول غير ما جبل نفسه عليه. وافقهم في الرأي صناع حكاية قيل فيها أن رجلان أقبلا على هالة سوداء تحتضنها أسوار مزرعة، نطق أولهم بالحديث «هذه عنز»، وأردف الثاني «هذا غراب»، فألقى الثاني حجراً فطار الغراب ليردف الأول بالإصرار «عنزاً ولو طارت»، فصارت تلك القصة تراثاً لمن يصر على رأيه خلافاً لشخصك وليس لطرحك، وما أكثر أصحاب العنز!. ختام الحديث وإن طال الشرح، مكنون القضية أن الجوهر النظيف والعقل السليم وارتقاء الفكر يشكلون أسساً للحوار النظيف، ولا تمهد أي طريق للاختلاف، والعناد السلبي الذي يفوق حده أن يرى الشخص نفسه ممجداً لذاته التي خلقت مخلوطة بالخطأ، مكرمة بنعمة الندم لمن صحت ضمائرهم، فلا يتركون غبشاً يعتلي بصيرة تفقد وهجها فتخبو حكمة الأيام.