ذو الثلاثة والعشرين سنة، مضطرب وعصابي ومُحتقر، نراه معتكفا في غرفته لأيام كعنكبوت عجوز، وكل ما حوله يبعث على الإحباط، أمه المريضة، أخته التي تتظاهر بحب من ستبيع له جسدها، وهو الذي طُرد من كلية الحقوق. ومن هذا الوضع الرديء كله خرج راسكولينكوف الشاب بنظرية يرى فيها أن كل الملتزمين بالأخلاق جبناء، وأن المميزين فقط هم من يتحررون من هذا العقد الاجتماعي الضاغط الذي لم يوقعوا عليه، هذه النظرية أو الحجة انبعثت حين فكر راسكلولينكوف بقتل عجوز مرابية وبغيضة تقتات على حاجات الناس وتمص دماءهم. يقتلها الشاب وينتهي بحالة عصبية متردية ويعترف بالجريمة في حالة كلاسيكية لما أسماه فرويد السمة الروسية أو الحل الوسط في النظرة الأخلاقية، حيث يذهب البطل للخطيئة ثم يصل بعدها لقمة الأخلاق والتطهر وهذا ما يتضح في حالة راسكولينكوف. في السطح نرى أن ما عاناه راسكولينكوف من حالات عصبية وتمتات متكررة هي حالة واضحة للشعور بالذنب، لكن ما الذي قد يراه معالج نفسي أو تحليلي من هذه الحالة الجادة التي صورها ديستوفسكي والتي بدت حقيقة أكثر من أشخاص حقيقيين كُثر في القرن التاسع عشر؟ ومالذي تكشفه هذه الأعراض وما التبريرات النفسية لها؟ لو أردنا أن نضع ديستويفسكي على سرير التحليل النفسي أو على سرير غريمه فرويد وبالأخص تحت منظور مبدأ اللذة (Lustprinzip) فالبشر برأي فرويد مدفوعون -على عكس رغبة العالم -لتحقيق اللذة من خلال إشباع غرائزهم ولتجنب الألم، ولأن العالم لا يحقق لنا ما نريد فإن هناك آليات ملطفة تحقق اللذة جزئيا أو في أقل الأحوال تخفف الألم الناتج من عدم تحقق ما نريد. نعود لراسكنوليكف الذي يريد أن يقتل العجوز لأن ظروفه كلها بشكل أو بآخر تضغط عليه ليفعل (غريزة في حاجة للإشباع) فينخرط في تخيل مستمر لكافة التفاصيل لعملية قتلها، هذا الخيال هو عنصر ملطف للغريزة العدوانية ومن المفترض -حسب نظرية التحليل- أن يخفف من وطأتها، غير أن الوسائل الدفاعية لراسكلولينكوف أضرمت نيران عنفه وملأته بالهواجس المستمرة حتى قتلها. هنا يتضح أن الروائي وعالم النفس وضعوا مآلين مختلفين لسؤال واحد، كيف تؤثر بنا الآليات الدفاعية؟ ثم إن هناك سؤالا آخر لماذا لم يخفف هذا الخيال من عنفوان عدوانه، وما الذي حدث لراسكولينكوف في طفولته حتى وصل لهذا؟ لم يجبنا ديستوفسكي على السؤال الثاني وهذا لا شك من عبقريته فالكمال برأيي يكمن في ترك سؤال كهذا مفتوح لمخيلة القارئ، أما السؤال الأول فهذا سؤال نفسي قد أثارته الرواية مع غيره من الأسئلة الأخرى. نعود للأريكة ذاتها، ونفحص راسكولينكوف المسكين مرة أخرى بعين الأنا الأعلى (Superego) الاستبدادية -والتي لا تكترث كثيرا بسعادة الأنا - وحيث إنها تعكس المثل والمجتمع وآراء الوالدين وما ينبغي وما لا ينبغى، فنظرية راسكولنكيف الخاصة إذاً كانت مراضاة وقربانا لهذه الأنا العليا التي تريد أن تلتزم بما ينبغي، فحاول راسكولينكوف يائسا أن يخبر آناه العليا أنه سيصبح أكثر تميزا إذا ارتكب جريمته، غير أن ديستوفسكي يقول لنا -بشكل غير مباشر- إن لا نجاة من الأنا العليا أو الضمير وأننا نُختم بطريقة ما في السنوات الأولى من المجتمع والبيت فمهما جئنا بنظرية بدلية فلا هروب من النظرية الأولى إذا. هل هذا صحيح ياديستوفسكي إذا؟ هل صحيح أننا لن نستطيع التحرر من قبضة معتقداتنا وتصوراتنا الأولى التي لا نعي معظمها حتى لو أردنا؟ وهل تؤثر بنا الأمور التي لا نتذكرها أكثر من الأمور التي نجترها يوميا في عقلنا؟ هذا جزء بسيط من الأسئلة التي قد يخرج بها باحث من قراءة لنص أدبي بحت، ينتهي من الرواية ويكتب في نافذته البحثية المفضلة كلمات مفتاحية قد يستغرق شهورا ليقرأ إجابات بحثية مختلفة عليها وقد يستغرق سنوات في محاولة لإجابة سؤال وحيد منها. * باحثة في علم الأعصاب النفسي ديستوفسكي