يلجأ الناقد السعودي في كتابه «مذكرات قبو: الداعشي انطلاقاً من لحظته الخاصة» (دار طوى للنشر) إلى ديستويفسكي وهيرمان ملفيل. يعود صاحب «الحداثة والمجتمع السعودي» إلى راسكولينكوف بطل «الجريمة والعقاب»، والشخصية الرئيسة في «مذكرات قبو» وآخاب، بطل «موبي ديك»، أي إلى شخصيات مضطربة نفسياً تنطوي على قدر من الغموض، وتتبنى أفكاراً معقدة، طالما حيرت النقاد بنزعاتها التدميرية، واستدرجتهم للبحث في طبيعة دوافعها والتقصي في خلفيات نظرتهم الملتبسة إلى العالم. شخصيات مريضة تنتمي إلى لحظة زمنية بعيدة جداً، غير أنها لا تزال راسخة في الأذهان، نستدعيها بين الفينة والأخرى، لتفسير سلوك عدواني طارئ أو تأويل مشكلة أخلاقية. لا يهدف الناقد السعودي، من هذه العودة، إلى إعادة تأمل هذه الشخصيات، التي تعاني أزمات حادة وحرمان دفين، وتعيش وسط عزلة رهيبة، تملأها نزعة الثأر تارة، وتربي أحلاماً طوباوية حول تحقيق العدالة والخير تارة أخرى. ولا يسعى إلى تقديم كشف جديد في ما يخص سلوكها ودوافعها الأخلاقية، إنما بغية الاستنارة بها للاقتراب مما يسميه «اللحظة الخاصة للداعشي». وقد يتبادر إلى الذهن أنه مهما كانت هذه الشخصيات تنزع إلى الشر وتسيطر عليها فكرة التدمير، فإنها قد لا تصلح نماذج لتأمل «داعش» في ضوئها، فالأفعال الوحشية التي يقترفها الداعشيون يومياً فاقت كل تصور عن الجريمة، غير أن ما يهدف إليه علي الشدوي هو تنويع التجارب التي تستطيع أن تعطيه حالات مشابهة، تسمح له بالاقتراب أكثر من لحظة الداعشي الخاصة، وبالتالي فهو يعترف بقصور هذه التجارب التي يحللها، لكنها تبقى، في رأيه، من أكثر التجارب أثراً وأفضلها وعداً لتحليل لحظة الداعشي المريعة. صورة القاتل كما أن صاحب «حياة السيد كاف» لا ينشغل بما إذا كانت الصورة التي يرسمها للداعشي صائبة أم غير ذلك، ما يهم هو الصورة فقط. يغامر الشدوي بالاقتراب من موضوع شائك وخطير كهذا، فضلاً إلى النظر إليه من زاوية أدبية، لكن متى لم تكن المواضيع التي يقاربها صاحب «تقرير إلى يوليوس قيصر» شائكة ومثيرة للأسئلة؟ فهو ليس ناقداً أدبياً في المفهوم الضيق، إنما هو ينفتح على الظواهر التي تؤثر سلباً في المجتمع، والتي يكثر ضحاياها وتتحول إلى هاجس يومي وشاغل لا ينفك يطارد الجميع، فيخضعها للنقد والتأمل. وبالتالي فكل كتاب نقدي يصدره صاحب «شرقيون في الجنوب» هو عبارة عن مغامرة جديدة يخوضها، مغامرة بكل ما تعنيه الكلمة، إذ يروق له مواجهة الصعب والمعقد من المواضيع، حتى لكأنه يعثر على نفسه في مقاربة مثل هذه القضايا الإشكالية. من هنا ابتعاد كتبه ونأيها عن تجميع المقالات، السمة الغالبة عند عدد كبير من النقاد، فهو يتقصد أن تكون له أطروحة أو قضية واحدة يعالجها، ويحاصرها درساً وفحصاً من الجوانب كافة، الأمر الذي يتطلب منه جهداً كبيراً، خصوصاً وهو يعود إلى لائحة طويلة من المراجع والأسماء الأساسية في مجالاتها. لئن بدت الشخصيات الروائية التي يستحضرها صاحب «سماء فوق أفريقيا» لا تخلو من نزعة فلسفية أو رؤية معقدة تسند حركتها وتبرر أفعالها، فإن شخصية الداعشي بدت فارغة. يبدو الداعشي، الذي يدافع عن القتل ويعتبره جريمة نقية، مثقل بلا ضرورة وجوده. ولأن هذا يقلقه وجد في القتل ما يطمئنه أن هناك حاجة أكبر. وما يقترفه الداعشي من تدمير لا يتطلب تفسيراً في ضوء الآيديولوجيا، باعتبارها مجموعة من الأوهام والتعليلات والتبرير العقلاني، كما يقول الشدوي، إنما من خلال تلمس الدوافع النفسية والشعورية، وارتباطها بالبنى العابرة للأفراد، إذ من الضروري، من وجهة نظره، إعادة خلق مناخ الجنون المرعب والمريع في الثقافة، «لنعرف إلى أي حد هو العالم عنيف ونحن مبتلعون فيه». وتكمن إحدى مشكلات الداعشي في إهماله الزمن الحاضر، إذ يعتقد أنه بالإمكان إعمال الفكر للعودة بالزمن إلى الماضي. يؤكد الشدوي، الذي ينشط في النقد والبحث وكتابة الرواية، أنه لن يمكن فهم غير المألوف في تجربة الداعشي، إلا بعد تطعيمها ببعض التجارب المألوفة. والحدث الذي ينتجه الداعشي لا علامة تشير إليه سوى رأس مقطوع عند قدمي الفاعل، أو رفع الرأس المقطوع فوق صدر القتيل. ولا يرى صاحب «مدار الحكاية» في الداعشي ثورياً، إنما مجرد متمرد، شوّه رومنطيقية الشهادة ولطّخها لكي تستمتع العامة على رغم الرداءة وافتقاد الأصالة. يشعر الشدوي بسطوة الداعشي بينما يقرأ اعترافات الرجل الغريب في «مذكرات قبو»: «إذ إن للأفكار قوة هائلة ومنطقاً لا يرحم، وأن قوتها ومنطقها قلبته رأساً على عقب، وجعلته متوحشاً لكنه يشعر بالدناءة والخزي». من منظور القبو النفسي يحلل الكاتب الداعشي، مستعيناً بالرجل الغريب في رواية «ديستويفسكي». هذا الرجل، الذي في اللحظة التي يدرك فيها ما هو «جميل ورائع وسامٍ»، يعن له أن يفعل أفعالاً دنيئة مخلة بالأخلاق. ومثل الداعشي يتمتع هذا الغريب بقدرة هائلة على أن يختطف مشاعره نحو الداخل، في مكان كالقبو أعمق وأمنع. الداعشي هو بديل هذه الشخصية الغريبة، من وجهة نظر الشدوي، لأنه يملك أسوأ ما فيها، وهذه الشخصية تعكس الداعشي في لحظته الخاصة. إذ إن كلاهما يملك الحق في أن يتصارع مع من يعتبره غبياً، ولكن قبل الصراع عليه أن يملك الحق في أن يكره، لأن هذا الحق في الكره هو السعي نحو جوهره الأخلاقي، ولأن أحدهما يمكن أن يحلّ محل الآخر في لحظتهما القصوى، فلا أفضل من هذا الرجل الغريب لكي يتأمل الداعشي ويفلسفه. ويتوصل صاحب «القراءة كسياق له معنى» إلى أن الداعشي، الذي يستلذ بممارسة فعل الهدم والتدمير، يختلف عن الإنسان العادي الذي يبوح بذكرياته الخاصة لأصدقائه، في حين يخشى هو كشف ذكرياته حتى لنفسه، «ومن هذا الاحتياط الوفير للذكريات غير المكشوفة يتبلور ويتكون الداعشي». راسكولينكوف والداعشي يجد علي الشدوي في شخصية راسكولينكوف، أكثر التجارب شبهاً بلحظة الداعشي، خصوصاً عندما يطرح بطل ديستويفسكي الأسئلة على نفسه، عقب قيامه بقتل المرابية العجوز وأختها. يشبه الداعشي راسكولينكوف في أنه ليس محتاجاً إلى أي شيء، ما هو مهم بالنسبة اليه أن يحقق الفكرة، ولكن أية فكرة وما وسائله لتنفيذ فكرته، تلك هي المسألة؟ ذلك ما يجعل منه «الآخر الروحي لراسكولينكوف، وبالتالي فالداعشي مثل بطل ديستويفسكي مصاب ب «هوس أحادي» أي مجنون في أمر واحد وفكرة واحدة، بمعنى شخص تتسلط عليه فكرة واحدة». مأساة الداعشي وراسكولينكوف هي هزيمتهما الأخلاقية، فحين يسمي الداعشي «فضائعه جهاداً فهو بمعنى ما غير قادر على أن يسمي جريمته باسمها». من هنا يبدو الداعشي، في تحليل الشدوي، صورة واقعية لشخصية راسكولينكوف الروائية، فهو اعتقد أنه اكتشف عدم وجود عدالة في العالم، وهو ما قاده ليرى أن أي شيء يفكر فيه ويفعله هو الصحيح وأكثر من ذلك عادل. وإذا كان آخاب، أو إيهاب، يتخذ من شريعة البحر قناعاً له، فإن الداعشي مثله عندما يتخفى وراء الشريعة الإسلامية. ولا يمكن أن تكون اعترافات آخاب إلا اعترافات داعشي صميم. وتتوضح نزعتهما في التحكم في الحياة والسيطرة المطلقة على الحقيقة. التأمل في الداعشي وآخاب، وفقاً إلى صاحب «طيور أثيوبيا» هو تأمل في العنف على مستوى اللاوعي، «ذلك أن الثأر الدموي لا يمكن أن يكون منطقياً ولا مبرراً، لكنه عميق ومدفون في نفسيهما». لقد وجه آخاب كل أفكاره وأفعاله نحو غاية واحدة هي الثأر، واستعد الى أن يضحي بكل رغباته البشرية في سبيل هذه الغاية. يتحول آخاب كما لو كان قائداً من قادة «داعش»، يعرف ما الذي يفعله بجنوده، فهو يجتاز أجسام هؤلاء وإرادتهم المقهورة، ويبقى تأثيره مسلطاً على عقولهم.