يقول أبو الحسن الماوردي في كتابه (أدب الدنيا والدين): "أصعب ما على الإنسان أمرين: الأول: معرفة نفسه، أما الثاني: حفظ السر". وما يهمني هو الأمر الأول الذي سأتحدث عنه في هذا الموضوع، والذي غاية علم النفس وهدفه فيه فهم الإنسان عقلا وروحا وسلوكا، وكيفية اكتشاف ميوله ومشاعره وأفكاره ودوافعه وأسبابها، وهو ما دفع البعض من الناس للالتحاق ببرامج ودورات ومحاضرات وقراءة العديد من الكتب المهتمة بالتنمية البشرية، ولكنه للأسف لا زال يفقد الطريق الصحيح لمعرفة موهبته وميوله وقدراته، فما السبب يا ترى؟. قد يوجه البعض اللوم للأسرة بأنها أهملت توجيه ابنها منذ نعومة أظفاره في الوقت الذي كان يعرض فيه اهتماماته بكل عفوية، وهناك من يوجه اللوم للمدرسة بشكل عام بأنها لم تقدم البرامج التي توجه الطلاب نحو استغلال واستثمار مواهبهم الفطرية ولم تمنحهم الفرصة لتطويرها وتنميتها وإبرازها، وهناك من يرى المجتمع سببا رئيسا في إجهاض بعض المواهب ودفنها بقلة وندرة فرص استعراضها وتوظيفها وإظهارها. وهذه الأسباب الثلاثة، وإن كان بعضها صحيح بمقادير ونسب مختلفة، إلا أنها ليست الوحيدة في دفن المواهب وإضاعتها، فلو افترضنا أن الأسرة قد قصرت لأي سبب من الأسباب كانشغال الوالدين أو عدم اهتمامها بثقافة الإبداع والموهبة في فترة معينة فما حجة الإنسان إذا اكتشف تلك الموهبة ولو متأخرا، هل يبقى في دائرة اللوم أو ندب الحظ أو تمثيل دور الضحية؟. وكذلك لو أن المدرسة لم تهتم بتنمية مواهب طلابها وتوجيهها بسبب عدم توفر الطاقم التعليمي المؤهل للقيام بتلك المهمة أو بسبب ضعف الإمكانيات المادية ثم استطاع الطالب أن يكتشف موهبته لاحقا فما هو المبرر أن يبقى يتألم بعدم الاهتمام بموهبته يوم أن كان طالبا؟. ولو قلنا أن المجتمع لم يتمكن من الاهتمام بكافة الموهوبين على مستوى الوطن وكنت واحد من هؤلاء، فلماذا تجلس تلطم خدك وتتحسر ولا تتحرك منتظرا ذلك الاهتمام أن يأتي إليك يوما؟. أفضل مسوق لموهبتك التي تمتلكها هو أنت؛ وأنت فقط، والسبب إيمانك بنفسك كفيل بإظهارها وإبرازها، ومن هنا يأتي السؤال الذي طرحه المرحوم فهد الفهيد وفهد الحمود في كتابهما (ذاتك علامة تجارية): "كيف يمكن لشخص أن يسوق لمهاراته ومميزاته دون أن يعرف ما هي؟". فالإنسان وحده هو المسؤول عن تنمية إبداعه وموهبته مهما كانت الظروف والصعوبات والتحديات. ولهذا من مسؤولية الإنسان الالتزام بممارسة الموهبة التي يمتلكها، والتركيز عليها، والبحث عن فرص ومجالات لتطويرها وتحسينها، ولا ييأس، فالبعض يشتت نفسه بين مجال وآخر، رغم عدم تناسب قدراته ومهاراته مع تلك المجالات، والسبب يرجع إلى عدم الصبر والالتزام واليأس السريع، فكم من موهوب كان سبب عدم ظهور موهبته عدم تحليه بالصبر الكافي، وكم من مبدع أخفق بسبب كثرة تنقله بين المجالات زعما منه أن المبدع قادر على التميز في كل مجال الكتابة والرواية والشعر وغيرها. وهذا جدير بخنق وقتل الموهبة وجعلها قصيرة النفس بسبب عدم التركيز على تنميتها وتطويرها والارتقاء بها. لقد أسدى الخليفة الراشد والملهم عمر رضي الله تعالى عنه نصيحة يحتاج إليها كل مبدع وموهوب أو بارع في مجال أو تخصص أو مهارة، تحث على الصبر والالتزام وعدم التعجل: "من بورك له في شيء فليزمه".