شكّلت المُعنطفات السياسية في الخمس عقود الأخيرة بالشرق الأوسط ظروفاً استثنائية لِتُبرز مشروعين إقليميين متنافسين يسعيان إلى ملء فراغ القوة في الشرق الأوسط. الأول هو المشروع الإيراني، والثاني هو المشروع التركي في ظل غياب المشاريع العربية والتي ظلت عقودا وإلى يومنا هذا لم يتحقق واحد منها، والذي كان من أهمها مشروع الوحدة العربية. ولدى كلا المشروعين مصالح وأطماع مشتركة ذات طابع اقتصادي وسياسي. ويشهد المجتمع الدولي حالياً تنافُسا اقتصاديا شرسا وخاصةً في تنامي الصناعات والاكتفاء الذاتي لأن ذلك هو من سمات الدول القوية والتي لن تستطيع القوى العُظمى أن تتقاذفها متى ما أرادت تحت أعيرة النيران. ولهذا يوجد تنافُس قوي كذلك حول خط أنابيب الغاز والتي لا تقل أهميةً عن النفط وهذا هو جوهر الفوضى القائمة حالياً في عدد من البُلدان العربية بمن فيها سورية، ومما لا شك به أن هذا التنافس التركي - الإيراني الاقتصادي، السياسي سيكون محط اهتمام المجتمع الدولي في المستقبل القريب والطويل، خاصة أن الدولتين تعتقدان أن لديهما الحق التاريخي باستعادة الإرث الاستعماري "الامبراطوري" القديم واستغلالهما لثغرات عدة في الشعوب العربية التي تنتشر فيها البطالة والفقر الذي من شأنه أن يقسم الدول إلى دويلات مستقلة. ولأن الدول العربية بمن فيها الخليجية تتقاطع مصالحهم فيما بينهم بشكل جذري يصُعب أن تتحد ما لم يتنامَ الشعور القومي العربي تجاه المعسكرين التركي - الإيراني ولا أعتقد أن ذلك سيحدث لسبب بسيط، أن السياسة قائمة على المصالح والمصالح اليوم قد تتجاوز الحركات القومية، فكل من الدول العربية تبحث عن مصالحها ومعظم مصالحها تتماشى مع عدة معسكرات منقسمة في المنطقة وفق مصالح الدول العظمى كأميركا والصين والروس والفرنسيين والألمان ولا ننسى بريطانيا ودورها الرائد الصامت الفعّال مع دول المنطقة. واعتقد أن التقارُب العربي - التركي قد يكون ممكنا في الآونة أكثر من التقارُب العربي - الإيراني "هذا في حال تراجع أنقرة عن سلوكها السياسي الخارجي والتمدُد الذي قد فرض نفسُه في عدد من بُلدان المنطقة في الجناحين الآسيوي والإفريقي". أما على مستوى الدول العظمى كأميركا والاتحاد الأوروبي وبريطانيا والصين كيف بوسعها أن تواجه هذا التنافُس؟ لا أعتقد أنه سيكون هناك موقف مُتحد فالمصالح لهذه الدول العظمى قد تتقاطع بشكل جوهري وجذري. ولكن يمكن لواشنطن وبعض الدول الأوروبية أن تخلق تحالفا إسرائيليا خليجيا - عربيا لمجابهة هذا التنافُس والوقوف عليه، كذلك يمكن لواشنطن أن تتخلى عن سياستها القديمة والمعروفة تجاه الأقليات وإيجاد حلول جادة تجاهها وأن تُمنح قُبرص واليونان والأرمن فُرصة لتنامي قوتهم السياسية ودورهم التاريخي في المنطقة فوجود دول مُتماسكة مجاورة لأنقرة قد يُعيد حساباتها إلى الخلف والتراجُع نسبياً عن توغلها بشكل أكبر خاصةً في الجناح الإفريقي الذي من شأنه أن يُحرِّك المياه الهادئة والآمنة لعقود طويلة في المنطقة وأعني ذلك البحر الأحمر تحديداً وضرب كل من مصالح والأمن الوطني لعدة دول من أبرزها السعودية ومصر. التحالفات لوحدها لا تكفي إنما المرحلة القادمة تتطلّب التفكير بعمق وبشكل استراتيجي تجاه ملف الأقليات وإبراز أدوار جديدة لبعض دول البحر المتوسط. خاصة وأنه يمكن أن يتحول التنافس الإيراني التركي إلى علاقة تفاهم وتنسيق للمصلحة المشتركة في المنطقة وهذا أمر بغاية الخطورة، وعلى الرغم من أن العلاقات بين تركياوإيران اتسمت "تاريخيا" بالتنافُس إلا أنه لكلاهما مصالح مشتركة مع الآخر يمكن أن تتنامى ومن شأنها أن تشكِّل العديد من التنسيقات المشتركة خاصةً في إفريقيا. فضلاً عن ذلك انتشار ظاهرة المرتزقة أو ما يُعرف ب الميليشيات المسلحة في مواجهة السلطة المركزية، وتزايد ولاءاتها لدول أخرى مثل تركياوإيران، وكل ذلك يؤدي إلى إطالة أمد الصراعات والحروب في المنطقة والتي كانت السبب الرئيس لانتشار الفقر والتشرُّد والتخلُّف بين الشعوب. كما عملت كل من إيرانوتركيا بشكل متزايد على تنسيق السياسات في جميع أنحاء الشرق الأوسط، حيث تعملان معاً في قضايا عدة وهي واضحة في المشهد، ويعود تعزيز التنسيق بينهما إلى أسباب اقتصادية وجيوسياسية، لا سيما وأن إيران المورّد الرئيس للنفط والغاز الطبيعي إلى تركيا من خلال خط أنابيب مشترك، وهناك تفاهم في ما يتعلق بالموقف من القضية الكردية في المنطقة، ومنع محاولات إقامة دولتهم الخاصة، ويتشابه الموقف العدائي الإيراني تجاه مصر والمملكة العربية السعودية مع توتر العلاقات التركية - السعودية والمصرية؛ مما قد يُمهِّد لحدوث أزمات في البحر الأحمر وليبيا من شأنها أن تشكل تهديدا للدول العربية. وثمة مؤشرات عدة لتزايد الحاجة الإيرانية للدعم التركي، ومنها زيارة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى تركيا في يونيو الماضي، وهو أحد أكثر الاجتماعات أهميةً والتي عقدت منذ انتشار وباء كورونا وكان هدف الزيارة الحصول على الدعم التركي في تخفيف العقوبات وحظر الأسلحة، وفي المقابل ستساعد إيرانتركيا في ملفات عدة، لذا أعلنت إيران دعمها لدور تركيا في ليبيا، وإعلان جواد ظريف دعمه حكومة الوفاق الليبية، وسط مزاعم بأن الحرس الثوري ينقل أسلحة سراً إلى قوات الجيش الوطني الليبي المدعوم من روسيا بقيادة خليفة حفتر، كما قامت تركياوإيران بالتنسيق لضرب الجماعات الكردية في شمال العراق في 17 يونيو، وقد هدفت العمليات العسكرية إلى زيادة القواعد التركية في المنطقة الكردية شمال العراق، وإلى محاولة عزل حزب العمال الكردستاني عن الحدود الإيرانية. وهذهِ صور بسيطة من أوجه الاتفاق والتنسيق بين تركياوإيران، أما عن الشأن النووي لا أعتقد أن تركيا ستدعم إيران للحصول عليه رغم التقاء المصالح الاقتصادية والسياسية في عدد من الملفات وذلك لسبب بسيط وهو أن تركيا تتعامل مع إيران كند ومُنافس رغم توافقهما بالعديد من القضايا.