يحكي الدكتور فهمي جدعان في سيرته الذاتية الصادرة مؤخرًا عن الدار الأهلية بعمّان تحت عنوان «طائر التمّ» تغريبة الفلسطينيين ومعاناة اللجوء والتشرّد وفراق الأهل والأحبة، كما يحكي قصة كفاحه في مواجهة هذه الصعاب والتغلّب عليها للوصول إلى مكانة مرموقة في الوسط الثقافي. سأقف على ملاحظة تبدّت لي بين مختلف صفحات السيرة، لعلها تُشكّل مدخلًا لقراءة أعمال «المفكّر». في الفصل الأول سرد رحلة خروجهم من قريتهم في جنح الليل هربًا من عدوان الاحتلال، وطوال الطريق الذي قطعه حافي القدمين وهي تتفجر دماً وألمًا كانت أمه تضغط يده وتحضنه بين الفينة والأخرى تصبيرًا له حتى الوصول للمناطق الآمنة الذاهبين إليها. هذه الرحلة أثّرت في نفسه رعبًا وخوفًا لم يستطع تجاوزه حتى الآن كما يقول، ليس خوفًا عابرًا بل مؤثرًا على آرائه الفكرية واختياراته الحياتية، «وكانت المقابلة التي كان عليّ أن أتحملها في أمور حياتية أو إدارية أو اجتماعية تثير لديّ دومًا هذه المشاعر المؤلمة التي تتقلب بين الخوف وبين القلق وبين الجبن»، أما «في كتاباتي الفكرية المبكرة مثلًا كنت أتجنب الدخول في معارك فكرية وأميل إلى مطلق التقرير بعيدًا عن عقابيل النقد والصراع قبالة المختلفين». ليس الخوف وحده المؤثر في مسيرة فهمي جدعان، بل كانت بداياته ترزح تحت وطأة عقدة النقص التي أنتجتها الغربة الإجبارية والتفاوت الطبقي مع الآخرين الذين عايشهم في سورية أثناء دراسته المدرسية والجامعية، فكان التخفي وعدم الاعتراف بهوية اللاجئ هربًا من نظرات الازدراء شعاره، وفشله في الدخول بعلاقات عاطفية في وقت مبكر من حياته كبقية رفاق المدرسة ضاعف هذه العقدة، «وكانت أعراض الغيظ والغيرة والحسد تستبد بي حين يحلو لواحد من رفاق تلك الفترة الاسترسال في حكاية قصصه الغرامية الجريئة»، ولعل هذا الفشل العاطفي سبب في انصرافه عن الزواج المبكر تحت عذر إكمال الدراسة الأكاديمية. عدم التمكن من إثبات الذات بالطرق الصحيّة يدفع المرء إلى تعسّف الإثبات بأي وسيلة، وهو ما كان يدفع لاشعور فهمي في طريقة تعامله مع أخته الوحيدة التي بقيت معه وأمه في المخيم، إذ كان يتتبعها في كل مشوار ويراقب تحركاتها مع أنها تكبره سنًّا، حتى طفح بها الكيل وصارحته بأن يكف عن ذلك، ففعل معترفًا بأنها «كانت ملاحظتها ثاقبة، وكان تأنيبها في محلّه. والذي يلوح لي اليوم أنني كنت في غياب الأب، وبإزاء مخاطر الوضع، أتقلب بين ذكورية بائسة مسحوقة تريد أن تحمي نفسها وذويها وأن ترد الاعتبار إلى ذاتها، وبين نرجسية تطلب تحقق الأنا الوجودي. أي إن ضربًا من النرجسية راح يتشكل منذ ذلك الحين». ولا يخفى أن النرجسية بذرة تنبت في الأرض الخالية من الثمار الصلبة التي تملؤها بجذورها ولا تقبل لغيرها بمزاحمتها، ولا يظن القارئ تحاملي على الدكتور أو محاولة تصيّد عثرات المراهقة من أجل استنقاصه، فليس هذا هدفي ولا حاجة لي بذلك، وإنما الغاية تقديم إضاءة لقارئ نتاجِه ليُحسن فهمه والتعامل معه، وما خرجت به في هذا المقال هو صريح اعترافه هو إذ يقول: «لا أشك اليوم أبدًا في أن الجوهريّ مما كنته لم يكن إلا مزيجًا من الاستلاب وفقرًا في تقدير الذات وانحصارًا وتقليصًا في مدى الرؤية والوعي. كل هذا فوق قاع نَرِسستيّ». هل هذا ما «كان عليه» أم «لا زال عليه»؟ الحكم للقارئ الفاحص في نتاج الدكتور، وإن كان اختياره ل»طائر التم» عنوانًا لسيرته يوحي بالإجابة، وهو - كما يقول في مفتتح الكتاب - طائر يتمثله «المخيال الميثي» في ألوان: ملكيٌّ، نبيل، سام، ذو إهابٍ وجيه، وخطوٍ مهيب، واثق معجب بنفسه، دائم الوفاء لمن يحب، تتملكه «الرغبة» بلا هوادة وتحمله على الهجرة إلى أماكن عديدة وبعيدة، يقرنه بودلير في (أزهار الشر) بالوضع الوجود الإنساني المسكون بالذكرى والفقد والنفي والألم. رائد العيد