هناك، بالتأكيد، إبداعات رومنطيقية كثيرة، بين تلك التي كتبها بودلير، خلال فترات متفرقة من حياته وجمعت بعد موته تحت عنوان واحد لافت هو"الفن الرومنطيقي"، ولكن من المؤكد أيضاً أن بودلير، لو كان حياً حين نشر الكتاب، لما كان اختار له هذا العنوان. فهو كان يمكنه أن يدرك ان عنواناً كهذا يخدع، إذ يوهم القارئ ان الكتاب دراسة علمية في هذا النوع من الفن وتياراته. الكتاب كان جمعاً لمقالات من بينها ثمة مقالات تتحدث عن رومنطيقيين من هوغو الى فاغنر مروراً بتيوفيل غوتييه، الذي ساهم في جمع الكتاب ونشره بعد موت بودلير، ومن بينها مقالات أخرى لا علاقة مباشرة لها بالرومنطيقية. ثم ان بودلير لا يضع لنصوصه هذه استنتاجات شاملة تبرر العنوان. ومع هذا، حين صدر الكتاب بعد سنوات من موت بودلير، كان من الواضح ان عنواناً كالذي اختير له، قادر على اجتذاب القراء. ففي ذلك الزمن كان التيار الرومنطيقي، عموماً، يعيش انتفاضاته الأخيرة وبدأ يتحول من تيار تنتمي اليه الإبداعات، الى تيار يُدرس أكاديمياً. أما بالنسبة الى بودلير فلعل أهم سمات الرومنطيقية كونها لا قاعدة محددة لها. ومن هنا نراه، في معظم دراسات الكتاب، يتأرجح بين الرومنطيقية والرمزية والبارناسية، ناهيك عن السوريالية المبكرة، وقد وضعت كلها تحت لواء نزعة أهم ما فيها انها تعارض الواقعية والطبيعية والكلاسيكية. ومن هنا ما قيل دائماً من أن"رومنطيقية"بودلير، في دراساته لا في أشعاره، هي رفض لشيء ما، أكثر منها انتماء لشيء آخر. مهما يكن، فإن دارسين كثراً تعاملوا في ذلك الحين الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، مع أساليب بودلير النقدية على انها مكملة لأساليب سانت - بوف الاجتماعية، أكثر من كونها معارضة لها. وفي هذا السياق كان واضحاً مدى الانفصام ليس بين بودلير الناقد وغيره من سادة النقد الواقعي الاجتماعي، بل بين بودلير الناقد وبودلير الشاعر، لكن هذه حكاية أخرى ليس هنا، مكانها. هنا... الأهم هو الحديث عن الأدب الفن عموماً كما كان بودلير يراه. فمنذ البداية يحدد لنا هذا الشاعر - الناقد، انه يرى النشاط الشعري لدى البشر، فناً مستقلاً كل الاستقلال في ذاته: الشعر هو ملكة انسانية تنحو الى الجميل، تماماً كما ان العقل النقدي ينحو الى الحقيقي، والإرادة الأخلاقية تنحو الى الخيّر. وهكذا يفصل بودلير تماماً بين ثلاث ملكات، لينادي وهو ما يهمه هنا باستقلالية الفن، ولكن من دون أن ينكر وجود نقاط تلاق بين ما هو جميل وحقيقي وخيّر. ولقد رأى الباحثون الذين توقفوا طويلاً عند كتاب"الفن الرومنطيقي"هذا، انه الأكثر تعبيراً، من بين كتابات بودلير كلها، عن موقفه النقدي: موقف لا يتحدر من أي منظومة فلسفية، ولا يتسم بالتالي بأي صرامة فكرية. وبودلير كي يعبر عن هذا، من طريق الأمثلة الحية لا من طريق التنظير الخالص ينطلق من التحليل المباشر لعدد من الأعمال ونتاجات عدد من المبدعين، حيث يعثر على"عدد معين من المبادئ"التي يستند اليها بغية التأكيد في كل لحظة على نظرته الى"الشكل"في العمل الفني بصفته"قيمة مطلقة". ومن هذه الأعمال أشعار وقصص الكثير من مواطنيه المعاصرين له، ولكن خصوصاً أعمال إدغار آلن بو، حيث يورد بودلير هنا مقاطع عدة من نص كان صدر له في شكل مستقل عنونه"ملاحظات على إدغار آلن بو". وبودلير، إذا كان في مجال تحليله للشعر يتوقف طويلاً كمبدأ عام عند مفهوم"الجميل"، فإنه تنحى عن هذا التوقف، حين يجد نفسه محللاً لعمل غير شعري، نقول هذا ونفكر في ذلك التمايز المهم بين دراسة بودلير لأشعار فكتور هوغو، التي يفرد لها دراسة مستقلة، ودراسته لرواية"البؤساء"لهوغو نفسه. في اطلالة ناقدنا الشاعر على"البؤساء"لا يعود ثمة بالتأكيد مجال لحصر الكلام في البعد الشكلي، حتى ولو كانت هذه الرواية ابداعاً، لا دراسة أكاديمية. ومن هنا يتوقف بودلير طويلاً عند الأبعاد الأخلاقية التي تقف وراء مثل هذا العمل، وهي أبعاد لا يجد بودلير مجالاً للأصرار على رومنطيقيتها. وهو حين يصل الى تحليل رواية"مدام بوفاري"لغوستاف فلوبير، لا يتردد عن خوض نوع من التحليل النقدي السيكولوجي للعمل. أما حين يفرد مقالات عدة في المجموعة للموسيقي الألماني ريتشارد فاغنر، فإن ما يحركه طويلاً وبعمق، إنما هو ذلك التجاور لدى فاغنر بين منطلق رومنطيقي واضح، في اختياره مواضيع أوبراته وموسيقاها، وبين نزعة عقلية لا شك في أن بودلير تلمسها في خلفية ابداع فاغنر وفكره. ونخص بالذكر من بين هذه الدراسات، تلك المعنونة"ريتشارد فاغنر وفانهاوزر في باريس"، وهي دراسة كتبها بودلير في العام 1861. وفيها القارئ، عدا عن التحليل المعمق لفن فاغنر، وتراوحه بين الأسطوري والواقعي، كما بين الرومنطيقي والعقلاني، يعثر على فقرات مهمة جداً يحاول بودلير أن يدرس فيها سيكولوجية الجمهور، في شكل يبدو ذا ريادة حقيقية في ذلك الحين. وفي طريقه، خلال دراسته قدرة الموسيقي الألماني الكبير على التأثير الحقيقي في هذه السيكولوجية، يعرّج الناقد على التكوين الثقافي لفاغنر، هذا التكوين الذي"يتزاوج مع موهبته الإبداعية العميقة، ليسم العمل بميزات شديدة الخصوصية في نهاية الأمر، ميزات تجعل من أي عمل لفاغنر، عملاً يفرض ليس فقط تأثيره في الجمهور، بل فعله الذهني والعاطفي الدائم في هذا الجمهور". وهذه الفكرة هي التي تقود بودلير في هذا السياق، من ناحية الى دراسة الموسيقى وقوة تأثيرها في المستمعين عموماً، ومن ناحية ثانية قوة"فانهاوزر"وپ"لوهنغرين"وهما كما نعرف من أشهر أوبرات فاغنر"الجرمانية"في ذلك الحين وقدرتهما على التأثير - حتى القومي العنيف - في الجمهور الألماني. ولعل الجدير بالملاحظة في هذا السياق، هو أن بودلير كان، منذ العقد السادس من القرن التاسع عشر، واحداً من أوائل الدارسين النقديين الذين توغلوا في دراسة خطورة هذا النوع"المتعصب قومياً"من الفنون - حيث"تتحول الرومنطيقية من نزعة فردية، الى نزعة جماعية تتيح لقوم معينين ان ينغلقوا على أنفسهم متحلقين حول ماضيهم المشترك، ما يشكل في نهاية الأمر، سبيلاً الى التعصب ضد الآخر والمختلف". وبهذا قد لا يكون من نافل القول الإشارة هنا الى أن بودلير في مثل هذه الاستنتاجات، التي لا يمكن على أي حال العثور عليها بهذا الوضوح في أي من نصوصه، كان من أوائل الذين عرفوا كيف يدقون ناقوس خطر حقيقي أمام طابع للفن يتمكن من خلال لعبة الإبداع من أن يخدم كرافعة لفكر قومي منغلق، ما ينتج أفكاراً وممارسات تسهل الحروب والعداء بين الشعوب. صحيح ان بودلير في هذا، لم يتنبأ بتلك العلاقة التي ستقوم بين غوص فاغنر عميقاً في تاريخ النزعة الجرمانية واصالاتها القاتلة، وبين ما نادى به النازيون، وجعل من موسيقى فاغنر أشبه بمحرك إبداعي لفكرهم الانغلاقي المتحجر، حتى من دون أن يعتبر فاغنر مسؤولاً واعياً عن ذلك. إذاً، في مقابل فاغنر وموسيقاه القادرة على ان تكون شديدة الخطورة إذ ترتبط بضيق أفق قومي، عنصري، يبدو شارل بودلير 1821 - 1867، هنا في معظم نصوص هذا الكتاب النقدي المهم، منفتحاً على الآخرين، معطياً للفن حقه في استقلاليته وبحثه الدائم عن كل ما هو"جميل"، وبالتالي عن دور في السمو بالإنسان الى فضاءات الفن الرفيع ذي النزعة الإنسانية. وشارل بودلير قبل أن يكون ناقداً ذا نزعة انسانية شمولية، كان ويبقى شاعراً، ناهيك بأنه كان هو الذي قدم شعر مبدع أميركي مثل إدغار آلن بو الى الجمهور الفرنسي، ولا سيما حين ترجم قصصاً لبو الى الفرنسية، مهما يكن فإن قيمة بودلير الأساسية تبقى في شعره، وفي حياته الغريبة المضطربة. ومن أشهر أشعار بودلير، بالطبع، تلك التي تشكل واحدة من أشهر المجموعات الشعرية في القرن التاسع عشر"أزهار الشر"، علماً بأن له كتباً لا تقل شهرة وقيمة عن هذا، ومنها:"فراديس اصطناعية"وپ"كآبة في باريس"وپ"قلبي عارياً"، إضافة الى كتاب مراسلاته الذي اعتبر من أهم كتب المراسلات في الأدب الفرنسي.