مارك توين، مبدع ضخم بعقل كبير، ولا تأتي أهميته من طاقته السردية وحسب وإنما من ذلك العقل الذي يجعل الفكرة السردية في القص والنص أكثر إلهاما وتطورا، فهو لا يحكي لينمو النص وتتكون الحبكة وإنما يجعل المزامنة بين اللغة والفكرة وكأنهما يتراقصان على أنغام الخيال وتلك الرؤية المحكية بكل فلسفتها وثرائها بالمعنى. في روايته «الغريب الغامض» يصعد توين أعلى سقف الخيال الروائي مع ذلك المزيج الفلسفي الذي يبدو غير مكتمل، ولكنه في حقيقته يصل مرحلة الاكتمال مع رؤية جديرة بالنظر فيها حول فلسفة توين وإلحاحه في الذهاب بعيدا، ربما مع الشيطان. في ذلك العمل يطرح مارك توين فكرة مزعجة، خاصة وأنه استخدم الشيطان كثيرا في نصوصه، حيث يرى أن الله خلق استعراض «خيال الظل» الذي نسميه الحياة، حيث لا يوجد من هو حقيقي سواه، أما الآخرون فكائنات آلية صنعت بحيث تبدو كالحية، وذلك ينتهي عنده إلى عبث الوجود البشري واضطرابه. وهو غالبا ليس وحده في هذا الاتجاه، فمؤسس علم العلم، رون هابارد، يقول إن الناس مثل الآلهة اخترعوا العالم ليكون لعبة لهم، هبطوا إليه ثم أصبحوا ضحايا فقدان ذاكرتهم وهكذا وقعوا في فخ لعبتهم. وذلك نتاج ثقافة تعمقت كثيرا في استكناه حقيقة الذات والحياة، فلطالما كانت هناك نقاشات عميقة حول هذه القضايا سواء في سياقات روائية أو فلسفية فكرية. أفكار مثل أنه «على الأرواح أن تدخل الفردوس بعد مرورها بموقع الخوف»، وذلك ما كان كفيلا وكافيا لإنتاج الشبح أو الخيال، هي التي تؤسس لانطلاقات فكرية مثل التي جاء بها توين في «الغريب الغامض» التي تجعل الحياة نوعا من العبث واستعراضا لخيال الظل، وذلك ولا شك فكرة صادمة. هذه الرواية تكشف مجمل تفاصيل العملية الإبداعية لدى مارك توين حيث قدّم فيها أفضل خيال في آخر سنوات حياته، فالتعامل مع فكرة مركزية مثل عبث الوجود البشري وازدواجية الذات في شقيها اليقظ والحالم، يخلق أجواء إضافية في التطور السردي، خاصة وأن استخدام الشيطان بصورة منهجية في الحكي يعكس جرأة كبيرة في التعبير عن مقاصده بكامل الرواية. وطالما كان هناك شيطان كثيف في النص وتفاصيله، فذلك ولا شك يوفر فرصة مثالية وغير مسبوقة لمراقبة الصراع الأدبي المستمر لمارك توين مع موضوع مركزي في عمل إبداعي يفترض أن ينأى عن مخاشنة الشيطان، أيّا كانت وظيفته في فكرته الروائية التي تم تضمينها هذا العمل. بصورة عامة يبدو الآخرون لدى بعض الروائيين في صورة سلبية ونمط تجمد مميت، فسارتر يقر بأن «الآخرون هم الجحيم»، وهذا توين يراهم «كائنات آلية»، ولكن ذلك كلام نسبي يعزز الصراع الفكري في الذات على نحو ما يجري في «الغريب الغامض» التي تمنح طاقتها السردية خيالا واسعا قد يمّكن العقل البشري من أن يصد ويقاوم القوى المعادية. تلك الرواية عمل عظيم يحمل إشارات فلسفية قد ترهق القارئ أو المتلقي الذي لم يعتد الفلسفة الكامنة في لغة الروائي، فتناوله جريء لحد الإسراف في التعاطي مع الذات الإلهية، ولكنه في حقيقته يقف مع حالة النفس التي يمكن أن يعبث بها الشيطان ويجعلها ضحية لفقدان ذاكرتها الإيمانية التي تمنح الفرد سلامه واتزانه.