منذ فجر الشعر، والمرأة شمسُه، تشرق عليه حنانًا لإلهام لا ردَّ لسُطُوعه، كان له التاج، وهي لؤلؤته. منذئذٍ والشعراء يهوّمون في المدار، يقاربون كوكبًا هنا كوكبًا هناك، وتبقى عينُهم عليها. وراحوا يطرزون لها قصائد قيلت مرةً غزلًا، مرةً تشبيبًا، مرةً حبًّا، ويجعلونها مرنى الشعر. غير أنهم بلَغوا وبالغوا وتبلّغوا: بلغوا قلبها، بالغوا في مخاطبتها، وتبلّغوا انفعالاتها متفاوتة وفْق صدق البث. وهل يختلف البث؟ طبعًا يختلف بين شاعر وآخر، بين قصيدة وقصيدة، وللمرأة حدسٌ لا يفسره حس ولا يدركه إحساس. والبث، كما أكرر دومًا، يتجلى في إحدى اثنتين: قصيدة غزل وقصيدة حب. في قصيدة الغزل، قد لا تكون المرأة موجودة واقعًا، ف"يفترضها" الشاعر ويروح يُغدق عليها صفاتٍ من التسامي والمبالغة والهالات العليا، كي يكون هو "المحظيّ" بهذه النِعَم السامية. وهذا الغزل العربي مرّ في حقبات مختلفة، بين تشبيب في مطلع القصيدة قبل الانتقال إلى غرض آخر من القصيدة، مدحًا أو فخرًا أو وجدانيات. وراح الغزل يستقلّ عن الأغراض ليكون مكتمل القصيدة. والشاعر في هذا الغزل يعمد إلى "تصنيم" المرأة بسمُوّ مبالَغ فيه حتى لتصبح المرأة فيه تمثالًا من رخام، جميل لكنه بارد من رخام. وفي الشعر العربي مئات القصائد من هذا الغزل المفتقد حرارة المرأة وصدق وُجودها. وقد يكون للشاعر أن "يتنمّر" على المرأة فيكيل لها هجاءً يجعلها ضحيته ويجعله هو البطل، وهذا أدنى أنواع الغزل. وفي أي حال، تبقى قصيدة الغزل "افتراضية" لامرأة "افتراضية" في حالات "افتراضية"، وككل كائن "افتراضي" تسقط القصيدة وتسقط المرأة من الشعر لأنها زائفة في قصيدة شاعر زائف. قصيدة الحب عكس الغزل كليًّا: المرأة موجودة، وحالاتها موجودة، مُعاشة، لا يمكن الشاعر أن "يفترض" أي حالة لها غير واقعة أو حاصلة، من هنا صدق مشاعره ومشاعر القصيدة. وإن لم تكن القصيدة "سردية" الحالات، فالقارئ يشعر أن القصيدة ليست ل"تمثال من رخام" بل من واقع حي لامرأة موجودة لا ضرورة للشعر أن يغالي في "تصنيمها" كي يرفع من مزاياها. كيف يميز القارئ بين قصيدة الغزل وقصيدة الحب؟ من تركيبة القصيدة ذاتها، بين مبالغاتٍ باردة في مغالياتٍ سائدة، وعاطفة تترقرق في كل بيت فتبلغ نبْض القارئ قبل عقله. وفي الحالتين تبقى المرأة هي النجمة الرائعة التي تحدس في البث، صدقه أو زيفه. لذا قلتُ أعلاه إن انفعالاتها متفاوتة، وإن لها حدسًا ليس يخطئ، لا يفسره حس ولا يدركه إحساس. والأسبوع المقبل تجربتي في ذلك.