ليس من هدف هذه المطالعة ولا من مقاصدها أن تكون هجاء لشعر نزار ولا غزلاً فيه، لكنها دعوة الى رفض التدجين بكل صوره ومدارسه. فالمجتمعات العربية تزدحم بجيوش المدجنين في كل الساحات والميادين: العقل يدجن باسم التسليم لكي لا يعقل، والفكر يدجن باسم التعليم لكي لا يستشكل، والرأي والموقف يدجنان باسم الواقعية لكي يقبلا الهوان، والى جانب ذلك هناك جيوش لتدجين الذوق والمشاعر والوجدان حتى تحجب الرؤية بعمى الألوان. من الظواهر البارزة والمتكررة في شرقنا الكئيب أن ذا الموهبة فيه يعيش وكأنه لم يولد، ويموت كأنه لم يوجد، ويرحل كأنه لم يعش، وإذا قدر أن تعرف لمبدع قدرته ولموهوب موهبته، حُبست المعرفة وأجلت العاطفة حتى يرحل ذلك الموهوب عن دنيا الناس لتكون المعرفة والعاطفة دمعة بكاء أو كلمة رثاء، وإذا كان هذا القول لا يصدق على الشاعر المثير نزار قباني، وقد استطاع أن ينتزع لنفسه الترحاب والاعجاب في حياته من فئات كثيرة من الناس لسبب سنبينه، فإن القول السابق يصدق على الكثرة الكاثرة ممن وهت نبضاتهم في الضجيج الذي تعج به السوق، وخفتت ومضاتهم في الأضواء التي تطلقها محطات الأضواء وصناعة الاعلام، بهذا السبب ماتت بذور وذبلت زهور وانطفأت مواهب. وموت نزار قباني أطلق عاصفة لم تهدأ بعد، لا تقتلع الأشجار لكنها تعصف بكثير من الحقائق والأفكار، والعاصفة لا تتيح لمثيرها ولا لمن عصفت به الحكم المتأني والنظرة الفاحصة. في هذه العاصفة برز فريقان مختلفان جد الاختلاف في الحكم والنظرة، فريق مجذوب الى نزار انجذاب المريد الى شيخه العارف، يرى خطأه اصابة وضعفه قوة وشطحاته مدداً. وهذا الفريق يرى أن مدرسة الحب أغلقت أبوابها بعد نزار ومات الشعر وماتت الأوراق على الأشجار، فنزار هو سيد العشق ومعجزة اللغة والناطق باسم جميع العرب "وهو شاعر أخلاق من الطراز الأول، بل حتى غزله المكشوف يمثل مراحل التطهر للذات!!". وهناك قلوب يتمنى كثيرون لو ظفروا بها تنكس أعلامها ووجوه وردية الأطياف تعلن حدادها وأحزانها. يواجه هذا الفريق ويضاده فريق آخر شان لنزار منكر عليه، يرى احسانه اساءة ومعروفه منكراً، وقد يجنح به الشنآن الى مجانبة العدالة في الحكم والموقف. كاتب هذه المطالعة لم يقدر له أن يعرف نزار شخصاً وان كان عرف عنه شاعراً ولم يقرأ شعره في حياته دراسة وان كان وقف على القليل منه منشوراً، إلا أن ما ثار من عاصفة بعد موته، وما تبثه رحلة مفارق من شجى وأسى دفعا الى أن أرجع الى ما تركه نزار، قرأت بعضاً منه قراءة المستكشف ووقفت على بعض وقفة المتأمل الذي يربط النتائج بمقدماتها، ويتبين الصلة بين الشيء ومثيله، ويحاكم الرأي والموقف الى ما يضاده ويناقضه من المواقف. الدارس لنزار يجد أن شخصيته مادة مركبة وليست عنصراً بسيطاً، وأظهر العناصر في مركب شخصيته - كما يرى كاتب هذه السطور - عناصر أربعة: الأول: نزار متديناً. الثاني: نزار والمرأة. الثالث: نزار انساناً. الرابع: نزار مبدعاً. وأحسب انه لم يعرف نزاراً وشعره معرفة كافية من لم يعرف هذه العناصر الأربعة فيه، فانتاجه متأثر بهذه العناصر، بل هو نتيجة لامتزاجها وتفاعلها داخل كيانه، لقد صاغت هذه العناصر شعره وأعطت لوحاته ما لها من أبعاد وظلال وألوان، وإذا كان هناك شيء سواها - كما يروى عن وفاة أخته منتحرة لعدم اقترانها بالشخص الذي أحبته - فهو عامل وسيط يعجل التفاعل ولا يدخل فيه. من المعقول، بل من المنتظر أن لا تكون هذه العناصر الأربعة متساوية التأثير فيه عمقاً وامتداداً، لذلك لن نتناول العنصر الأول والثالث إلا في الحدود التي توجبها صلتها بميل المنحنى في وجدانه، وبالتالي في صياغة ما ترك من تراث. نزار متديناً ليس من هم هذه المطالعة أن تلج الى هذا الجانب من جوانب شخصية الرجل، لولا عامل ملزم، هو أن هذا الجانب هو أوسع المنافذ الذي نفذ منه أكثر الشانين له العائبين عليه، ونعتقد أن من يحاكم بعض انتاج نزار الى نصوص المصادر الدينية وهي واجبة الإيمان والاتباع يجد هذا النتاج يسيل بما يعضد رأي المنكرين عليه ويؤيده، فهذا الجانب واضح الحضور في نفسه، يشير إليه اشارة عابرة حيناً، ويعبر عنه تعبيراً ضاجاً أحياناً. وقد يقول بعض المدافعين عنه أن نزاراً لا يهاجم المقدس في جلاله وكماله، ولا النص في صفاه ونقاه لكنه يهاجم فهم السوق لذلك، ومع أن هذا القول ظاهر التهافت، فإنه من الجلي أن الناس لا يزالون منذ أكثر من خمسة عشر قرناً يتناقلون ويتوارثون ويحفظون الشعر الجاهلي، وهناك من لا يزال وارثاً تفضيله على سواه، وهم يرون ذروة الشعر الجاهلي المعلقات وأولى المعلقات معلقة أمريء القيس، لم تمنعهم من ذلك وثنية الشاعر، ولم تجرح مشاعرهم وتسقط الاعجاب به اباحية عبر عنها في فجاجة ومجاجة. ولم تمنع الأخطل الكبير نصرانيته من أن يكون الشاعر الحظي عند خليفة المسلمين، كما لم يمنع فحش الفرزدق المسلم من أن يكون من المقدمين في التراث، وشعر أبي نواس بدوره ليس مدرسة تعلم النسك والعفاف. بل ان معظم ما وصل إلينا من تراث، مشحون بالصبوات والهفوات مزدحم بما يحمل من مجون، وفي كتاب "الأغاني" وكتاب "أدب الغرباء" وكلاهما لأبي الفرج الاصبهاني وفي "اليتيمة" وفي "رسالة الجواري والغلمان" للجاحظ ما لا يندى له الجبين فقط بل تندى منه كل خلية. ولم يزل شعر كل هؤلاء ونثرهم - ومثلهم كثير - يكرر وينشر، ولم يعرف في نقد الأقدمين أن دين أي فرد أو مذهبه ميزان يرتفع به شعره ونثره أو يهبط، إذ الأمر متعلق بأدب الأديب لا بفكره وبموهبته لا بعقيدته، وهذا رأي سبق إليه أحد أعلام النقد منذ أكثر من ألف عام، وهو القاضي علي بن عبدالعزيز الجرجاني صاحب كتاب "الوساطة". ومهما يكن من شيء فإن الرجل قدم على خالقه وهو أعلم بسريرته، وفي عفو الله مطمع وفي جنته متسع، ولن يأخذ نزار أو غيره مقعد أحد استحقه في الجنة، والله جل شأنه يقول: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا، إن الله يفصل بينهم يوم القيامة...". نزار والمرأة لا يعرف تاريخ الأدب العربي - في ما أعلم - ولم أقف في ما قرأت من أدب اللغة الانكليزية، ولعله يندر أن يوجد في آداب الأمم الأخرى من وقف كل ربيع حياته وصيفها، خريفها وشتاها، ووقف كل أو جل انتاجه على المرأة واصفاً لها ومعبراً عنها، راغباً فيها ولاهياً بها، كما وقف نزار، لقد عبر عنها بشتى الصور، ونحت لها مئات التماثيل. المرأة في حياة نزار خيمة انتهت الى أبعادها كل أبعاده، وحاجز لم يستطع تجاوزه الى سواه إلا مرغماً بمرارة الواقع وضغط الأحداث. فالمرأة هي الشغل والشاغل والهم والاهتمام، الوسيلة والغاية، الغذاء والماء والهواء. والقارئ لمجموعتيه الأولى والثانية وهي سبعة عشر ديواناً كتبها في ما يزيد على ثلاثين عاماً، يشعر أن الرجل فرغ من كل هموم الدنيا وجواذبها ومن أشواقها وغاياتها الى هم واحد حصر نفسه فيه ووقفها عليه، فنصوصه - شعراً ونثراً - في المجموعتين ليس فيها من الأغراض الأخرى ما يزيد عن عدد أصابع الراحتين. في هذا الجانب أجد أنه من الواجب الاشارة الى خطأ انطباع متأصل لدى كثير من الناس، ذلك الانطباع أن كل أو جل ما قال نزار عن المرأة هو من المجون الفاضح المكشوف، ومن الانصاف للرجل القول بأن ذلك من الخطأ الشائع الذي لا يتفق والواقع، فالمجون الفاضح في شعره قليل، إذ أكثره يتحدث عن ظاهريات المرأة، يتحدث عن جمال المرأة واغرائها، عن زينتها وعطورها، عن أصباغها وألوانها، عن وعد لم يتأكد ولقاء لم يتجدد، فهو في كثير منه تشبيب لا افتراس: ويمنحني ثغرها موعدا فينحفر في شفتيها الصدى وأمضي إليها أنا شهقات الضلوع تغازل لون المدى و مرحبا يا رداء يا صيحة الطيب وصبحت بالرضى يا رداء من بدربي رماك شلال لون فطريقي براعم خضراء وإذا كان ما تقدم صحيحاً، فإن من الصحيح أيضاً ان المرأة في شعر نزار وفي حياته وفي ما أعطاها من مساحة في وجدانه لم تتجاوز كونها حديقة ثمار تقطف وشجرة فاكهة تجتنى. عرف الرغبة ولم يعرف العشق، وأولع بالتعدد ولم يمر بالاخلاص، وأجاز لنفسه الأخذ ولم يوجب عليها العطاء. لم تمر مشاعره بذلك المصفى الجميل الذي يصوغه العشق ويصقله الهجر وتدق مسامه من وهج الفراق، لذلك بقي شعره في هذا الجانب - وهو الجانب الأكثر والأشهر من عطاه - تماثيل جميلة من المرمر والعاج، لكنها تبقى مع جمال مظهرها تماثيل باردة المجس منطفئة الوهج. وفي شعر نزار جانب جنى فيه على المرأة، هوى بها الى منحدر لم تزد فيه عن كونها ملهاة ومسلاة، فهي مرغوبة ومطلوبة إطفاء لعطش واشباعاً لجوع، واطعاماً لغريزة عبر عنها بقوله: هو الجنس احمل في جوهري هيولاه من شاطئ المبتدا بتركيب جسمي جوع يحن لآخر، جوع يمد اليدا في هذا الجانب من شعره اختزل المرأة، كل المرأة، كل شخصيتها، كل عقلها، كل عواطفها ومشاعرها، كل فضيلتها، اختزل كل ذلك في شفة ونهد وخصر وحلمات، فالمرأة لديه متعة جسد لا نشوة روح وضجيعة سرير لا شريكة وجدان. ثمة مكانة للمرأة عندما تكون مرضية له مستسلمة لجوارحه، لكنها تصير لئيمة اذا خرجت من بيت الطاعة، وساذجة اذا كانت بسيطة نقية كاللؤلؤة، وتصير شوهاء هلوكا لا تفيق، إذا وقع منها ما لم يذكره: ماذا لديك؟ فعندي من راحتيك اعتراف رسائل ورسوم تترى فماذا أخاف؟ خزائني منك ملأى بيض وزرق لطاف لا تحرجيني فثأري ثأر وسمي زعاف المرأة في نظر نزار مرغوبة ومحبوبة الى اشعار آخر، مرغوبة طالما هي فتاة لم تنضج أو قاربت النضج، فإذا تجاوزت هذه المرحلة فإنه يقول في قصيدة "حوار مع امرأة على مشارف الأربعين". "الانوثة يا سيدتي لا تعيد نفسها أبداً، انها شرارة لا تقبل النسخ، هذا ما كنت أشرحه لك وأنت في السادسة عشرة". هذا الموضوع الذي وضع فيه المرأة لا يختص بواحدة من النساء ولا يتجه الى امرأة بعينها، انه هجاء لكل جنس النساء، فالمرأة العجوز هي مستقبل كل الصبايا الحالمات المتقافزات كفراش الروض تشرب رحيق الأزهار، انها البذرة المستكنة في كيان كل محيا عذب القسمات مشرق البسمات، وما هجا به العجوز المسكينة هو مستقبل كل البشر، والهاجي أحدهم، وإذا كان من المفهوم أن لا يتغزل أحد بالتهدم ولا ينتظر ثمرة من شجرة جردها الخريف، فهل من الضروري بل هل من الذوق أن يكون حطيئة جديداً لمن رشف منهن كل ألوان الرحيق؟ ترى ما هو موقف النساء اللواتي يعددنه. لهن نصيراً وظهيراً، يرين فيه الغازي الذي اكتشف وكشف ما في كنوزهن من لآلئ وألماس، وكيف يرين هذا الموضع الذين وضعهن فيه؟ نزار إنساناً في عالم المادة يمكن التجريد المطلق بين الدراسة ومجربها، فالنتيجة لا تتأثر بطبع الباحث او مزاجه ورغباته، كما انها لا تتأثر بالزمان والمكان اللذين تمت فيهما التجربة، ولكن الامر يختلف جد الاختلاف اذا تعلّق بدراسة عطاء الفكر او الوجدان لتعذر التجريد بين الذات وعطائها. والشعر بعض مظاهر الانفعال، وانفعالُ اي شخص المعبر عن استجابته للعوامل والمؤثرات هو جزء من ذات ذلك الشخص، ومهما كتب من دراسات تحاول التجريد فسيبقى هذا التجريد متعذراً او لغواً. ومع كوننا لا نجيز لانفسنا فتح الكوى على الآخرين ولا نجد متعة في ذلك، نجد انفسنا مضطرين للتعرض لهذا الجانب في شعر نزار بالقدر الذي تقتضيه دراسته. القارئ لشعر نزار تستوقفه ظاهرتان تلقيان الضوء على طبيعته وشخصيته، وليس ذلك هو المهم، لكن المهم انهما تفسّران ما فاض به نبعه من عطاء، هاتان الظاهرتان هما: الاولى: خفوت العاطفة الانسانية في شعره. الثانية: نرجسية توقع في التضاد وتجيز لنفسها ما تلعن بسببه الآخرين. خفوت العاطفة: بين عام 1944 وعام 1981 نشر نزار سبعة عشر ديواناً او مجموعة تشتمل على عدة مئات من القصائد ملأت ما لا يقل عن ستمائة والف من الصفحات، كلها في المرأة عدا قصائد لا تبلغ العشر جاءت في اغراض مختلفة، يضاف الى ذلك مجموعته السياسية في مئات ست من الصفحات. من بين هذه المئات العديدة من القصائد والفترة المتطاولة من السنين لا تجد اثراً يعبر عن العاطفة الانسانية، اي عن الانسان بما هو انسان، باستثناء، ما يعبّر عن اندفاع الغريزة او الانفعالات التي تفرزها السياسة. في هذه الفترة المتطاولة مات له اقارب ورحل اصدقاء وفارقه احباب وبنى علاقات انسانية، فتفتش عن اثر ذلك في هذه المساحة الهائلة من الصفحات والفترة الممتدة من الاعوام فيضنيك البحث من دون ان تعثر على شيء يذكر. والاستثناء الوحيد من بين هذه الصفحات ثلاث مرات او بالاحرى احاديث عن أم المعتز والدته، وتوفيق ابنه، وبلقيس زوجته. ونقتصر هنا على والدة الشاعر وزوجته. تموت ام المعتز في دمشق وهو بعيد عنها في بيروت، ماتت من دون ان يعانقها، ومن دون ان يقبلها، ومن دون ان ينظر اليها نظرة وداع، فلم يزد أثر الحدث في نفسه على ان قال: "عندما كانت بيروت تموت بين ذراعي جاءني هاتف من دمشق يقول "أمّك ماتت" لم استوعب الكلمات في البداية لم استوعب كيف يمكن ان يموت السمك كله في وقت واحد ثم استأنف يقول… كل مدينة عربية هي أمي". "دمشقبيروتالقاهرةبغدادالرياضالكويتالامارات". هكذا حشد كل المدن العربية التي هجا بعضها هجاء مقذعاً. فهل اراد بذلك ان يقول طالما لديه هذا الحشد من الامهات فلماذا يحزن على واحدة اسمها ام المعتز؟ لقد عجز هذا الحدث عن ان يلهم الشاعر شعراً. ان مفارقة تبعث على الحزن والضحك معاً تكشف عنها المقارنة بين هذه اللوعة التي أفاضها موت أمّه، وبين لواعج اخرى أثارها تغيّر إمرأة عابثة، سمى هذه اللواعج "مرثاة قطة": عرفتك من عامين ينبوع طيبة ووجهاً بسيطاً كان وجهي المفضلا وعينين أنقى من مياه غمامة وشعراً طفولي الظفائر مرسلا عرفتك صوتا ليس يسمع صوته وثغراً خجولاً كان يخشى المقبلا فأين مضت تلك العذوبة كلها وكيف مضى الماضي وكيف تبدلا ولعل أطول قصيدة قالها في موضوع واحد هي قصيدة بلقيس، قالها رثاء لزوجته، ماتت بلقيس في حادث يبعث على الأسى تألم لها وبها من لا يعرفها، وقد حاول نزار ان يعتصر في هذه القصيدة كل حزنه وأساه ليرشّها أطيافاً على وجه القصيدة وتضاريسها، ونجح في مقاطع من القصيدة، وغلبته طبيعته المتعلقة بالجسد فجاءت مقاطع اخرى حديثاً عن اغراء جسد لا عن ألفة روح، لقد خلت القصيدة من التعبير عن تلك العلاقة الحميمة بين الزوج وزوجته من تعانق المشاعر وامتزاج الارواح. تذبحني التفاصيل الصغيرة في علاقتنا وتجلدني الدقائق والثواني فلكل دبوس صغير قصة ولكل عقد من عقودك قصتان حتى ملاقط شعرك الذهبي/ تغمرني كعادتها بأمطار الحنان بلقيس يا بلقيس… لو تدرين ما وجع المكان… فهناك كنت تدخنين… هناك كنت تطالعين هناك كنت كنحلة تتمشطين وتدخلين على الضيوف كأنك السيف اليمان… في هذه القصيدة تلفت النظر ظاهرة اخرى، هي انه مع كونه يعرف القاتل ويعرف اصابعه ودوافعه فانه لم يكشفه او يشر اليه، ومع ان الفجيعة في عزيز تحطم الحواجز وترخص معها الحياة، فقد آثر ان يفرق دم زوجته على جميع القبائل، وذلك افضل طريقة لضياع دم مقتول، انه لا يهجو او يثأر من الفاعل، ولكنه سيقول عن العرب العجائب. النرجسية: ليست النرجسية الاعتزاز بالنفس ولا شموخها، ولكنها شعور بعشق الذات عشقاً يعطي صاحبه جواز التحرر من احترام الذات، بعد ان يكون تحرر من احترام الآخرين، وهذه ظاهرة في شعر نزار، فالقصائد التي من طراز "النساء والمسافات" و"دوريان غراي" و"اعتزال التمثيل" كثيرة جداً في ديوان شعره، وهي لا تمثل لهواً بالمرأة وعبثاً بها فحسب، بل تمثل كذلك تضخيماً للذات يبلغ حد النزق، وتبلغ هذه الصفة ذروتها عندما يعرض مباذله الداخلية في صلف ومباهاة. وتأتي حرب 1973، وهي حدث بدأ بنصف نصر وانتهى بضعف هزيمة، وقد رأى في هذا الحدث انتصاراً فلم يجد وسيلة اكثر تحضراً واقرب الى فروسية الاخلاق والطباع الا مصارعة الثيران في حلبة سرير. رأى ذلك افضل مظهر معبّر عن انفعاله بهذا الحدث ورد فعله عليه: حين استمعنا معاً لبيان العبور… ألاحظت كيف احتضنتك مثل المجانين… كيف رفعتك… ثم رميتك… ثم رفعتك… ثم رميتك… نزار شاعراً لم يعرف هذا القرن - بعد أحمد شوقي - شاعراً كان له من الشهرة والذيوع والانتشار مثل ما كان للشاعر نزار قباني، عرف في شرق الوطن العربي وفي غربه، وقرأه نساء ورجال، وأعجب به صغار وكبار، وصارت دواوينه - مثل روايات إحسان عبدالقدوس - مما يزرع في المخدة او يهجع في السرير، واذا كان الفارق لمصلحة شوقي في دائرة الشعراء والنقاد، فان هذا الفارق يصبح لمصلحة نزار في الدائرة الاوسع من القراء. من المؤكد ان هذه الشهرة والذيوع لم ينشآ من فراغ، فقدرة نزار الشعرية ترفعه الى صف الموهوبين، فهو قدير في استعاراته، قدير في اختيار مفرداته، وبالتالي في هندسة جملته الشعرية، بحيث تأتي هذه الجملة - في معظم شعره - وكأنها باقة زهور بديعة المنظر متعددة الالوان، ودواوينه تفيض بذلك بحيث يكون الاستشهاد بشيء منها لن يعدو اشارة لا تعطي صورة كاملة عن ابداعه. الجوانب من مزايا الشعر ومحاسنه ليست كثيرة - إن وجدت - في شعر نزار، وهنا يقفز هاجس حائر وهو ما الذي اعطى شعر نزار ذلك الذيوع والانتشار وإن من الشعراء الذين عاصروه من يماثله او يتفوق عليه؟ الاجابة على هذا الهاجس - وهو هاجس معقول ومقبول - هي ان نزاراً شاعر تسكنه دوافع تاجر وذكاؤه. لقد تسلسل من اسرة تجار فلا غرابة إن ورث عنها هذا الاتجاه، فصار بدوياً يعرف مساقط المطر. وتاجراً يعرف ماذا ومتى يجلب بضاعته الى السوق. ادرك ان الفرد العربي يعاني من احتباسين: احتباس الجنس واحتباس السياسة فرأى ان الحديث عن هذين الاحتباسين اقرب منفذ الى اهتمام اكثر القراء ووجدانهم فجاء وكأنه يحمل رسالة تحطم كل الحواجز المقيدة للجنس. لقد حول الاشياء المادية والمعنوية بل والبشرية الى جنس وألبسها لباسه، فالحرية صارت زوجة له، تعدّ له السرير وتحضر آنية الشراب وتتعرى له، وبيروت التي كانت تحترق هي أنثى محظية والقصيدة امرأة والمرأة اختزلت الى جسد يؤكل. واذا كان احتباس الجنس نهراً لا ينقطع تدفقه ولا مدده فهو ما صاحبه في معظم الاوقات واغلب الظروف، فان الاحتباس السياسي نهر تخضع امواجه لسرعة الريح ونزق الاعصار ومواقع القمر. ويزداد ضغط هذا الاحتباس شدة بالعواصف السياسية التي مرّ بها الفرد العربي، والتاجر من يرصد السوق ويجلب اليها ما ينفق فيها، وهذا ما يحسن نزار صناعته. فعندما حلّت كارثة 1967 والتي سارع الجهاز الذكي في التضليل فسماها نكسة تدجيناً لمشاعر الفرد المتفجرة، نزلت الكارثة على الشعوب العربية كالصاعقة سارع نزار فكتب قصيدته "هوامش على دفتر النكسة" وفيها عزا اسباب الكارثة الى السلطان الذي اقام امبراطورية المباحث والمخابرات وانفصل عن الانسان وجعل الشعب بلا لسان. والشاعر يعرف من يخاطب، يعرف من أقام هذه الامبراطورية ومن اختفى فيها وبطش بها. ثم يمرّ الوقت وينسى الفرد العربي احزانه القومية ومواجعه او تنسيه هذه المواجع ظروف معاناته ويموت جمال عبدالناصر ويمشي في جنازته ما يقرب من مليوني مشيع مقتنعين او مجبورين، وتتجاوب هذه الأصداء في الوطن العربي فيكتب قصيدته المعروفة "قتلناك يا آخر الانبياء". ثم تأتي رحلة السلام او الاستسلام التي تجاوز فيها انور السادات الخط الاحمر الذي ما كان احد يجرؤ على الحديث عنه فضلاً عن تجاوزه، وهبّت عاصفة من الغضب على الشعوب والحكومات واتخذت اجراءات للتعبير عن ذلك الغضب منها نقل الجامعة العربية الى تونس. وتقيم الجامعة احتفالاً في احدى مناسبات عمرها، والفرد العربي يمضغ هوانه ولا يستطيع الانتصار ويخنقه غضبه فيمنعه عن افاضته خوفه من زوار الليل، فاذا جاء من ينفّس عنه شيئاً من هذا الاحتباس فسيكون هو اللسان المعبّر عما في الجنان. وكان نزار من اقدر الراصدين لهذا الانفعال والمستثمرين له، فكانت قصيدته "انا يا صديقة متعب بعروبتي". والقصيدة في اغلب ابياتها من اروع ما قال وقد تكون من القصائد القليلة في ديون الشعر العربي، لكن هذه القصيدة قد تبقى اصداء تتردد في قاعة القائها لا تنتشر امواجها كثيراً خارجها لو ل يمس فيها هذا الجانب اي الاحتباس السياسي في أبياته الثلاثة المعروفة. ترى هل سينال شعر نزار هذه الشهرة والذيوع لموهبته الشعرية فقط، لو جاء هذا الشعر عن زرقة البحر وتدفق النهر ومتارف الورود؟ * كاتب وجامعي سعودي