لا تقاس حضارة الشعوب بالتقدم العلمي، وكثرة من تشاهده ممسكا بكتابه في الطرقات كما تظهرهم الأفلام والمسلسلات، وإنما تقاس الحضارة بأن تجد أثر الكتاب على سلوك الفرد اليومي خصوصا حال الأزمات التي تلم بالشعوب. والمتأمل لما جرى قبل أشهر بسبب قيام الشرطي الأميركي الأبيض بقتل رجل أميركي أسود وما نتج عن ذلك من تخريب وسرقة ونهب وتدمير للمتلكات الأبرياء يدل دلالة واضحة أن الحضارة ليست وفق المثالية الزائفة وإنما وفق انعكاس الثقافة على حراك الفرد اليومي، فالكتاب والقراءة لم تمنع الشرطي الأبيض عن ممارسة عنصريته ضد البشرة السوداء، ولقد ذكر تشومسكي في كتابه الجميل "الهيمنة أم التعايش" أن العنصرية قد يردعها القانون لكنها تبقى كامنة في الجين قابلة للثورة، والقراءة والكتاب أيضا لم تمنع المجتمع من ممارسة السرقة والنهب وذلك باستغلال فرصة تزعزع الأمن واختلال أسبابه مع العلم أن أغلبهم قد قرأ ووعى مضار الاعتداء على حقوق الآخرين، ولكنها قراءة لا تتجاوز الترقوة ولم تدخل في حيز الإدراك للنص Perception. ذكر ابن قتيبة في عيون الأخبار، عن العمريّ قال: قال رجل لعمر بن الخطّاب -رضي الله عنه-: إنّ فلانًا رجل صادق، قال: سافرت معه؟ قال لا، قال: فكانت بينك وبينه خصومة؟ قال: لا، قال: فهل ائتمنته على شيء؟ قال: لا، قال: فأنت الذي لا علم لك به، أراك رأيته يرفع رأسه ويخفضه في المسجد. وهذه الحكمة البالغة عن عمر -رضي الله عنه- تشتمل على ما يسمى بما ورائيات النص Metaphysics، حيث إن قياس البشر لا يكون وقت الرخاء والدعة وإنما حال الأزمات ومواقف الغضب والتي قل من يصمد فيها. وأزمة كورونا أكبر دليل معاصر أثبت ذلك. لقد لعبت أزمة كورونا دوراً بارزاً وغيرت خارطة الثقافة والحضارة الإنسانية وزعزعت ثقة الشعوب بسياساتهم، بل وغيرت مجرى الشعوب سياسياً واقتصادياً، وأظهرت أيضاً قيمة الإنسان في دول وانحطاط قيمته في دول أخرى. إنها كورونا التي وإن كانت نذير شؤم ومكمن بلاء إلا أنه كما قيل: "في كل محنة منحة" نعم فظاهر البلاء شر لكنه يشفّ عما تحته من خير للإنسان. وقد أظهرت أزمة كورونا هذا الخير في بلادنا -رعاها الله وحفظ قادتها- فمن أول يوم ظهرت فيه أزمة كورونا هرعت أغلب الدول بسن قانون "مناعة القطيع" تجاه شعوبها وكأنهم يرددون عجز بيت أبي نواس "وداوني بالتي كانت هي الداء"، وأظهرت دول أخرى أن الاهتمام سيكون للمواطن أولاً، ليلوح نجم السعودية في الأفق حين أصدر الملك بالاهتمام بالمواطن وغير المواطن على حد سواء، بل وتجاوز ذلك ليشمل المبتعث حيث تم إصدار قرار بتمديد بقاء المبتعث حتى ولو انتهت بعثته مع صرف كل مستحقاته، بل ووفرت طائرات تنقل المبتعثين حال رغبوا بالعودة لأرض الوطن من أنحاء المعمورة. أي دولة تجدها في الكون تشبه المملكة العربية السعودية؟ لن تجد، لن تجد. إن السعودية هي المثل الأعلى الذي ينبغي أن يُحتذى به في المستقبل حيث شعارها "الإنسان أولاً"، نعم، إن مفهوم الإنسان أولاً، هو من يجعل دولتك أحن عليك من والديك، وهذا ما نهجته مملكتنا الحبيبة -حفظها الله-. والآن وبعد ظهور كورونا المتحور سارعت السعودية لسن قوانين لحفظ المواطن والمقيم، ويأتي الدور عليك كمواطن ومقيم أن تشكر لدولتك والوطن الذي تعيش على أرضه بأن تمتثل للقوانين الاحترازية كجزء من حضارتك وثقافتك وصدق وطنيتك وانتمائك لهذه الأرض الطيبة التي أولت الإنسان كل اهتمام. أتى الدور عليك أن تمتثل للقوانين، فان الامتثال للقوانين في الأزمات يدل دلالة جلية على النضج العقلي والوعي اللامتناهي منك. الامتثال للقوانين يُظهر أثر المعرفة والعلم عليك، وأخيراً قل: شكرا "وطني الحبيب"، وقل: شكراً "قادتي"، وإن عجزت الألفاظ عن الشكر فسيبقى هناك حديث في السر أبثه لله تعالى في الخلوات بأن يبقيك الله وطناً عامراً، وأن يطيل في عمر ولاة أمرنا ويحفظهم، شكراً أيتها "السعودية العظمى". *أكاديمي – جامعة أم القرى