عشرُ سنواتٍ مرّت على وفاة (سيّد البيد) الشاعر السعودي المبدع محمد الثبيتي، ذلك الشاعر المرهف، كان آخر عهدي به في أخريات حياته، كنتُ أرافق والدتي في المستشفى في مدينة الأمير سلطان بن عبدالعزيز الطبية، وكانت غرفته بجوار غرفة والدتي، كنتُ أخرج في كل عصر أفسّح والدتي، وكان يخرج هو مع أهله وذويه، تعرّفت عليه هناك عن كثب، فرأيتُ الثبيتي الإنسان، والثبيتي الشاعر، لكنني كنتُ حزيناً؛ لأنني صرتُ أشاهده وهو يصارع الحياة، ويقاوم ما تبقى من عمره الذي أخذ يذوي ويذبل مع الساعات والأيام إلى أن فارق الحياة رحمه الله. عُرف الثبيتي بكونه أحد روّاد الحداثة الأدبية، والشعرية تحديداً، على مستوى الأدب السعودي، والأدب العربي الحديث بوجه عام، والحقيقة أن الثبيتي لم يكن شاعراً عادياً، أو رمزيًّا فحسب، بل كان شاعراً من طراز فني ثقيل، فهو من جانب كَمَّي، غزير الإنتاج، وافر الإبداع، لديه أكثر من ديوان، وهو من جانب نوعي، رشيق اللفظ، دقيق المعنى، عميق الصورة، في شعره شيء من الجمال لا يشبهه إلا هو، وفي عناوين قصائده، ودواوينه قصائد أخرى، في عناوينه رمزية، وجمالية ربما لم تنل حظها من الاكتشاف والتحليل، سواء من قبل محبيه، أو من قبل بعض النقاد والباحثين. ويحسب لنادي حائل الأدبي طباعة أعماله الكاملة التي ضمّت دواوينه: موقف الرمال، والتضاريس، وتهجّيتُ حلماً، تهجّيت وهماً، وعاشقة الزمن الوردي، وقد تخلل تلك الدواوين قصائد رائعة وخالدة من قبيل: بوابة الريح، وصوت من الصف الأخير، وتعارف، وقرين، والظمأ، وفارس الوعد، وصفحة من أوراق بدوي، ومسافرة، والنجم الغريب، وسألقاكِ يوماً، ومرثية خالدة في الملك فيصل رحمه الله، تنبئ عن حس وطني متوهج ربما لم يتفطن له بعد، كما كان للطابع الشعبي، والبيئة البدوية حضورها البهي في قصائده؛ ويمكن أن نلمس ذلك جيداً في غير قصيدة له، كما في (فواصل من لحن بدوي قديم)، و(صفحة من أوراق بدوي). لقد كان الثبيتي محافظاً على تقاليد الشعر العربي، ملتزماً بقوانينه، مزج بين الشعر العمودي، والتفعيلي، وكان يذكرني في خطه هذا بنازك الملائكة في الالتزام بالقانون العروضي، وعدم الخروج عنه، كما كنتُ أشعر في بعض غزلياته بلون نزاري، ولا أنكر أنه كان يفوق نزاراً في بعض قصائده ذات المعاني العميقة، والصور البديعة المملوءة بالخيال، والعاطفة المتأججة، بل امتاز في شعره بالتلون الأجناسي؛ إذ نجد في دواوينه القصيدة الرحلية، كما في (أغانٍ قديمة لمسافر عربي)، كما نلمس في بعض قصائده الأثر الحكائي، والملمح القصصي، كما في (الصعلوك – الصدى – الفرس – البابلي – شهرزاد والرحيل في أعماق الحلم – قراءة سابعة – النغم الثاني، الشوق المهزوم)، كما نحس بالبعد الرسائلي في قصيدته (برقيات حب إلى غائبة)، كما تميز الثبيتي ببعض آرائه النقدية التي كان يبثها داخل دواوينه، كرأيه في مقدمات الدواوين، وحديثه عن الحالة الشعرية، وظاهرة الشعر الحر، والشعر العمودي، ف (تحية لسيد البيد)، و(لله ما أجملك).