دعونا نقول إن هذا المشروع قد يشكل نقطة تحول في الفكر العمراني المعاصر الذي عادة ما يبحث عن تحقيق أعلى درجة من الخدمات، وأكبر قدر من التفاعل الاجتماعي، وتوفير فرص العمل، وبالتالي فإنه خلق معادلة توازن بين مجالات الحياة الثلاثة (السكن والعمل والترفيه).. ربما أكثر ما لفت نظري في مدينة "ذا لاين" هو التحدي الواضح الذي تثيره حول مفهوم العمران المستقبلي، فالأمر لا يتوقف عند مدينة ذكية واستخدام بدائل جديدة للطاقة التي لا تحدث تأثيرا سلبيا على الغلاف الجوي، ولا حتى تفوق البنية التحتية التي تحتويها المدينة الجديدة التي تتكون من ثلاث طبقات تبدأ من سطح الأرض الذي ترك لحركة المشاة والتفاعل الاجتماعي فهي مدينة تقدم نفسها على أنها "إنسانية" في تشجيعها للمشاة واستبعادها للسيارات والشوارع التقليدية وخلقها لفضاءات تعود بالإنسان إلى منطلقاته التاريخية المبكرة عندما كان يعيش في مدن بسيطة واضحة يحظى الإنسان فيها بالأولوية، لكن "ذا لاين" ليست في بساطة تلك المدن الوادعة من حيث تفوقها التقني، فطبقتها الثانية خصصت للخدمات بينما الطبقة الثالثة فهي لوسائل النقل الفائقة السرعة والذاتية التشغيل. ما تثيره هذه المدينة المستقبلية يمثل تحديا صارخا للعمران التقليدي، ولا أخفي أبدا أنني من أصحاب التوجه الذي يستمتع بالنمو التدريجي للمدينة، لكن عندما تبني مدينة فائقة التطور دفعة واحدة فإنها تجعل العمران أمام مفترق طرق، وربما تؤسس لمفاهيم ونظريات جديدة غير مسبوقة في التصميم العمراني. دعونا نقول إن هذا المشروع قد يشكل نقطة تحول في الفكر العمراني المعاصر الذي عادة ما يبحث عن تحقيق أعلى درجة من الخدمات، وأكبر قدر من التفاعل الاجتماعي وتوفير فرص العمل، وبالتالي فإنه خلق معادلة توازن بين مجالات الحياة الثلاثة (السكن والعمل والترفيه) بما في ذلك تعزيز فرص التقاطعات الاجتماعية من خلال تشجيع المشي وخلق فرص اللقاءات بين الناس في المدينة عن طريق تفعيل الفضاءات العامة وربطها بما يشبه محطات الحركة التي ينتقل فيها الناس من مكان إلى آخر لوجود الجاذبية المكانية التي تتوفر في تلك المحطات، مع وجود منظومة متفوقة للخدمات والنقل غير المرئية القابعة تحت الأرض وفسح المجال المفتوح على السماء للناس وحركتهم وتقاطعاتهم اليومية. إنها أشبه بالمدينة الحلم، أو المدينة الفاضلة التي يفترض أن تتخير سكانها من أصحاب العقول والإبداع والابتكار كي يساهموا في تطويرها وتحويلها إلى فضاء يجمع المبدعين. كما أعرف فإن هذه المدينة ليست للترفيه والعمل، بل للسكن الدائم وبالتالي فإن كونها توفر 380 ألف فرصة عمل فالمتوقع أن يفوق سكان هذه المدينة مع الوقت المليون نسمة، مما يجعل التفكير في الجانب الاجتماعي / الثقافي لهذا الفضاء العمراني الجديد مجالا للبحث والتقصي. لا أنكر أنه لا توجد لدي تفاصيل كاملة عن البنية السكنية في المدينة لكن من الواضح أن أفكار "التحضر الجديد" الذي يرتكز على الاستخدامات المتعددة التي تجمع السكني والتجاري والترفيهي في فضاءات مختلطة تمثل بداية التفكير المنطقي في فضاء عمراني يمتد على طول 170 كلم. وبالتأكيد إن فكرة الوصول إلى مباني الخدمات المهمة خلال 5 دقائق مشياً يعيد للأذهان نظريات التحضر الجديد، ولكن يبدو أنها هنا تأخذ صيغا مستقبلية تتحدى السياقات التقليدية التي تعودنا عليها. ما زلت أقول يبدو أننا أمام مفترق طرق في نظريات العمران في المستقبل القريب وما سينتج عن هذه المدينة قد يعيد تعريف كثير من الأفكار التي نعرفها سابقا. إحدى الملاحظات المهمة التي أثارت انتباهي، هي تقديم سمو ولي العهد - يحفظه الله - لهذا المشروع الفريد. الإحساس الذي وصل لي وأنا أسمع حديث الأمير أننا في المملكة نعيش عصرا مختلفا على مستوى التنمية بشكل عام والتنمية العمرانية بشكل خاص، فطالما كنت أقف متسائلا أمام عبارة "التنمية العمرانية" التي نستخدمها في مصطلحاتنا المهنية، بينما في حقيقة الأمر شكلت هذه التنمية عبئا اقتصاديا لعقود، ومصدر إنفاق وهدر وضغط على ميزانية الدولة بينما في الوقت الراهن يمكن أن يكون لهذا المصطلح معنىً ويمكن أن يكون العمران مصدرا للدخل ويمكن أن تتحول التنمية العمرانية إلى تنمية حقيقية. طبعا لا أريد أن أعظم المنطلقات الاقتصادية للعمران على حساب المنطلقات الإنسانية / الاجتماعية والثقافية، فإيجاد صيغة للتوازن يعتبر أحد التحديات الكبيرة التي سيخوضها الإنسان خلال هذا القرن. طالما أن "ذا لاين" هو تجمع للمبدعين والمبتكرين وأصحاب العقول، أو هذا ما افترض، فأتوقع أن يتطور داخل هذه المدينة المبتكرة بيئة علمية ابتكارية على مستوى البحث العلمي وعلى مستوى التعليم الأكاديمي. أتصور أنها فرصة لتقديم الحلم السعودي للعالم على أرض سعودية بكر، ولعل فكرة الفاصل بين المحطتين اللتين يعمل عليهما مشروع "نيوم" بشكل عام من أجل تقديم صورة مختلفة عن المملكة سواء في بعدها السياسي والثقافي والاقتصادي والديني والتاريخي. هو ليس مشروعا من أجل بناء مدن وخلق وظائف فقط، بل هو من أجل خلق روح جديدة للمملكة وفي قلب الجزيرة العربية.