تأخذ مهمة بناء المجتمع وتفعيل العلاقات الإنسانية بين أفراده بعضهم مع البعض الآخر أهمية كبيرة تقترن إلى حد بعيد بتطلعاته المستقبلية المشروعة وتحولاته الحضارية الجوهرية ويلاحظ أن عملية البناء هذه تقوم في علاقتها مع قوانين الحضارة وشرائط التقدم على قاعدة التماثل في الصعود أو الهبوط ومن هنا كثيراً ما نجد إن قوة بناء المجتمع تمثل انعكاساً لتصاعد الوعي الحضاري لديه وقدرته على التخطيط لمستقبل مستوطناته العمرانية وإدارته للتنمية التي هي إدارة التغيير الذي يهدف إلى تحقيق غايات المجتمع عبر إحداث التغييرات الهيكلية اللازمة في كافة الجوانب والتي لا بد لها من توفر القدرات الإبداعية الخلاقة والقادرة على تهيئة موارد المجتمع وتوظيفها بفعالية وبمرونة وبرؤية استراتيجية محددة قادرة على ضبط تلك التنمية بتشريعات عمرانية تحقق الرؤى والتطلعات، ووزارة الشؤون البلدية والقروية قادت التنمية العمرانية في الحقبة الماضية وسط تحديات كبيرة كان في مقدمتها اتساع الرقعة العمرانية للمدن والقرى وازدياد أعداد السكان وتنوع الطلب على الخدمات مما شكل تحدياً كبيراً أفضى إلى أهمية بروز عدد من المشاريع التخطيطية التي تعنى بصياغة التشريعات الضابطة والموجهة للتنمية العمرانية على المستوى الوطني والإقليمي والمحلي بما يكفل بناء مجتمع عمراني متكامل وبيئة مستدامة وفق فكر تخطيطي سليم وملائم وممكن التنفيذ في سياق خطط التنمية الخمسية للدولة. من هنا أقرت وزارة الشؤون البلدية والقروية مشروع (الاستراتيجية العمرانية الوطنية) كإطار عام لتوجيه التنمية المكانية على كامل رقعة المملكة العربية السعودية وتمثل المستوى الأعلى (الوطني) من عمليات ممارسة التخطيط العمراني والذي يقوم على تكامل المستويات الوطنية والإقليمية والمحلية. ولقد انطلقت هذه الاستراتيجية من ركائز أساسية لواقع التنمية في المملكة والذي شهد في السنوات الأخيرة زيادة الهجرة السكانية من المدن المتوسطة والصغيرة والقرى إلى المدن الكبيرة وما يصاحب ذلك من سلبيات تعيق استمرارية التنمية كما أنها منهج عملي لتحقيق التوازن في التنمية بين مناطق المملكة ومعالجة التباين الإقليمي بينها، وسعت الوزارة من خلال (مشروع استراتيجيات تنمية المناطق) إلى تحقيق الاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية والبشرية والتجهيزات الأساسية وشبكات المرافق العامة القائمة في المناطق الحضرية ورفع مستوى مشاركة المناطق في التنمية على المستوى الوطني والاستفادة من المقومات الاقتصادية والاجتماعية والطبيعية والبيئية لمراكز النمو العمراني في تحقيق التنمية الإقليمية المتوازنة والسعي إلى تحقيق التوازن المكاني في توزيع الخدمات المركزية والتكامل بين مناطق النمو الحضرية والمناطق الأقل نمواً. وجاء (مشروع دراسات أولوية التنمية العمرانية) ليجسد التنسيق بين الجهات الحكومية المختلفة مع وزارة الشؤون البلدية والقروية بوضع البرامج التنفيذية اللازمة للتنمية في إطار مراحل النطاق العمراني وفق الاحتياجات الفعلية للمدن وفق الأهداف المتمثلة في تحقيق التنسيق المتكامل بين الأجهزة القطاعية لتنفيذ المشروعات (http://www.momra.gov.sa). وظهرت (مشاريع دراسات المخططات الهيكلية) لصياغة المخطط العام للمدينة كوسيلة شرعية أساسية لتوجيه عمليات التنمية الطبيعية من أجل عمليات تنمية الأرض وتشمل الاستعمالات الخاصة والعامة كما تحدد بالتفصيل مواقع وامتدادات المشروعات العامة والمنشآت الأخرى كوثيقة إرشادية فنية توضح سياسات استعمالات الأراضي وتضع الضوابط والمقترحات التنموية، حيث تعبر عن مجموعة من المخططات العمرانية التركيبة التي تضم كل المعلومات الأساسية والمهمة عن تكوين هيكل العلاقات الوظيفية من النواحي الكمية والنوعية بما في ذلك توزيع استعمالات الأراضي المختلفة ومنظومة الحركة داخل المدينة وارتباطاتها مع ما يجاورها وفق مؤشرات وتشريعات عمرانية. وفي ظل هذا الزخم الكبير من المشاريع والدراسات التخطيطية الطموحة لمستقبل أفضل تأتي المرحلة الأهم وهي ترجمة هذه الضوابط إلى واقع فعلي وتدشين الآلية التي سوف يتم من خلالها نقل تلك السياسات الحضرية والضوابط التنموية إلى حيز الواقع والتنفيذ وهو التحدي الحقيقي الذي يواجه المعنيين بتطوير البيئة العمرانية والذي يتطلب جهوداً تنسيقية مشتركة من جميع القطاعات الحكومية ومساراً واحداً يعنى بإيجاد الأدوات الفاعلة القادرة على التنفيذ، وهنا تبرز مسألة تطوير العمل البلدي بمفاهيم الإدارة المحلية الحديثة كمدخل لتفعيل تلك الخطط والاستراتيجيات إلى برامج ومشروعات على أرض الواقع تدعم استراتيجية تنمية المدينة كخطة عمل تحقق نمواً عادلاً للمدينة بغية تحسين مستوى الحياة لكل المواطنين، ويتم تطويرها واستدامتها من خلال مشاركة كل الأطراف المعنية بالمدينة متضمنة رؤية جماعية تهدف إلى تحقيق تنمية اقتصادية محلية وتزيد من فرص العمل وتوسع نطاق الخدمات وتحسن أساليب الإدارة الحضرية وتخفف مستويات الفقر الحضري. وتأتي مشاركة جميع المعنيين وذوي الشأن في هياكل صناعة القرار أسلوباً يساعد على بناء إجماع حول أولويات التنمية، وعلى تحسين المساواة والكفاءة في توزيع الموارد، وعلى ضمان وجود شفافية ومتابعة للمسؤولين المحليين وتطبيق مبدأ المشاركة في اتخاذ القرار الذي لا بد أن يعزز بالقدرات والأنظمة الإدارية الفاعلة. ولذلك لا بد أن تتضمن استراتيجية تنمية المدينة بناء قدرات الأجهزة المحلية وشركائها في المجتمع المدني. ويظهر المجلس البلدي كأداة حقيقية لتحفيز تطوير أساليب إدارة المدن من خلال المشاركة كجهاز إداري سيعنى بقضايا التنمية العمرانية للمدن ويشكل خطوة هامة جداً في دعم اتخاذ القرار المحلي البلدي وتوسيع دائرة المشاركة للمجتمع المعني بمبدأ المساواة التي حسمت نظرياً بالمقالة المشهورة للرجل الواحد صوت واحد). وهذا سيمنح إدارة المدينة قدرة أكبر لاستغلال وتوجيه الموارد بالصورة الأكثر منفعة وبما يحقق التوازن المرجو في عملية تطوير المدن والقرى ويدعم مبدأ اللامركزية في اتخاذ القرار الذي يجب أن يكون منطلقاً من خلال منهجية علمية تعتمد بالدرجة الأولى على ضوابط التنمية العمرانية التي شرعت بالخطط الخمسية واستراتيجية التنمية العمرانية الوطنية واستراتيجية تنمية المناطق ودراسات المخططات الهيكلية والمحلية ومشروع أولويات التنمية العمرانية وأن أي قرار سيتخذ في معزل عن تلك الضوابط سيكون قراراً عشوائياً وغير منطقي وسيبعث على إحداث خلل في الإدارة الحضرية للمجتمعات العمرانية نظراً لما تمثله تلك الضوابط من مظلة محكمة لقرارات تنمية وتطوير المدن بعيداً عن الاجتهادات التي تعنى بالحلول المؤقتة دون النظر إلى الترابط المستقبلي لسيناريو التخطيط من أجل التنمية المستدامة. ومن خلال تجارب المجالس البلدية على مستوى العالم اتضح أنها تشترك في وحدة معوقات عامة تؤثر على مستوى التطوير لخدماتها ويبرز عنصر غياب مهمة التخطيط لدى المجالس واعتمادها على أسلوب المعالجة الآنية لقضايا الخدمات اللازمة للسكان. كأحد المعوقات الأساسية في عملها، وهذا الأمر يقودنا إلى مناقشة إشكالية مدى معرفة أعضاء المجلس البلدي بضوابط التنمية بتشريعاتها المختلفة كموجه رئيس لأي قرار يتخذ لمصلحة تطوير المدينة لضمان أن هذا القرار قد بني على أسس معلوماتية تكفل الأخذ في الاعتبار السياسات الحضرية التي تعنى بها إدارة العمران وهذا ما يؤكد أهمية استقراء أعضاء المجلس البلدي لسيناريو توجيه التنمية العمرانية واستيعابه استيعاباً دقيقاً لضمان توحيد لغة القرار المتخذ لصالح المدينة، والتأكيد على أنه من الأهمية بمكان أن يتولى المجلس البلدي التركيز على بلورة الآليات والأدوات التنفيذية لبرمجة الخطط إلى مشاريع على الواقع لأن هذا هو التحدي الأكبر والأهم في المرحلة المقبلة والتي يأتي في مقدمتها بالدرجة الأولى التمويل الذاتي للإدارة المحلية - البلدية - وايجاد المصادر اللازمة لدعم ميزانيتها للقيام بالمشروعات البلدية التي تساهم في تحسين البيئة العمرانية دون الاعتماد على التمويل الحكومي. ففي كل مدن العالم تبقى مرحلة تنفيذ الخطط واستمراريتها هي المرحلة الأصعب وهي التحدي المتواصل في الصراع من أجل خلق مدينة متكاملة الخدمات توفر سبل العيش الملائم لكافة شرائح المجتمع، إذا وفي هذه المرحلة فالمرشحون لعضوية المجالس البلدية مطالبون بالواقعية وبعدم المغامرة بالشعارات ونسج الخيال للوصول إلى (المدن الفاضلة) واطلاق الوعود غير المقننة والتي سوف يسألهم ويحاسبهم عنها مجتمع المدينة مستقبلاً، دون استشعار الواقع وحجم التحديات والمعوقات التي ستواجههم وتواجه العمل في الحقل البلدي بل لا بد من تكريس الجهود في دراسة المشاريع التخطيطية التي رسمت سيناريو المستقبل للمدن مسبقاً، وبذل الوقت في معالجة معوقات التنفيذ كخيار أساسي لمبدأ العمل المشترك والتركيز على آليات التنسيق مع الجهات الخدمية الأخرى ودعم البلدية في كل ما يواجهها من عقبات قد تحول دون الاستفادة من المشاريع المحلية. والعمل على قراءة تفاصيل المدينة واتباع المنهجية الصحيحة في إقرار البرامج المستقبلية. في مؤتمر البرلمانيات ورئيسات المدن لمنطقة آسيا - (الباسيفيك 2001) الذي عقد في تايلاند، لفتت الانتباه السيدة العجوز (جيوي بينغ) رئيسة مدينة (هوانغشي بمقاطعة هوبي الصينية) بتاريخها الحافل والمشرف طوال مسيرتها العملية وجهودها العظيمة في تطوير مدينتها والتي على غرارها منحتها اللجنة الاقتصادية لمنطقة آسيا والمحيط الهادي التابعة للأمم المتحدة شهادة «التميز في إدارة المدن» وعندما سألت (هوجير بينغ) عن رأيها في الأسباب التي خولتها للحصول على هذه الجائزة قالت: «لا أدري، ولكن أعتقد أن السبب هو أنني لا أتردد في تقديم حياتي من أجل مدينتي» إنها دعوة ملحة للواقعية والعمل بفكر تخطيطي شامل. * مهندس تخطيط مدن - رئيس بلدية روضة سدير