لا تظهر بركة العلم فيما تعلَّمه المرء وأصبح عالمًا أو طالب عالم إلاّ إذا انتفع الناس بهذا العلم النافع وسعدوا به، وبما أنتج من آثار علمية، وليس كل عالم أو طالب علم يكون علمه ذا بركة على من حوله أو في مجتمعه، فالبركة منحة إلهية ربانية يهبها الله لمن يشاء من العلماء ويصرفها عمّا يشاء، ولعل سر البركة في العلم هو الإخلاص والصدق مع الله عز وجل فيما تعلمه من علم وأراد به وجه الله تعالى وليس للنفس أي حظوظ أو أهواء أو ميول، لذلك نجد علماء حيثما حلوا في أي مكان فهم مباركون، ويُرى الأثر النافع في علمهم حتى بعد وفاتهم بمؤلفاتهم، وهذا ينطبق في القديم والحديث، ومن هؤلاء العلماء الصادقون المخلصون -نحسبهم كذلك والله حسيبهم- الشيخ الزاهد والمُعلم فيصل بن عبدالعزيز المبارك -رحمه الله- الذي كان مباركًا في علمه وقضائه وتدريسه ودعوته وها هي سطورنا تتكلم عن شخصيته ورحلته طيلة حياته. ولد فيصل المبارك العام 1313ه بحريملاء ونشأ يتيمًا فرباه عمه ثم طلب العلم على علماء بلده، ومن أشهرهم الشيخ ناصر الراشد، درس على يد عمه محمد بن فيصل المبارك وعلى الشيخ حمد بن عبدالعزيز آل الشيخ، ودرس على مدرسة آل الشيخ في الرياض، وكان عميد المدرسة الشيخ عبدالله بن عبداللطيف، وحينما يحل في مكان يجد فيها عالمًا فلابد أن يستفيد من هذا العالم وينتفع به فرحل إلى الأحساء العام 1331ه، وكان قد انضم مع الملك عبدالعزيز لضم الأحساء، فقرأ على قاضي الأحساء عيسى عكاس ثم على الشيخ عبدالعزيز بن بشر، وهذا من آثار بركة العلم على الشيخ فيصل، فهو لا يشبع من العلم، وكما قيل اثنان لا يشبعان طالب علم وطالب مال، وشتان ما بين الطالبين، فطالب العلم المخلص الصادق بطلبه ينتفع به حتى بعد موته، وطالب المال سوف يرحل ويترك لمورثه، والمال يورث والعلم لا يورث -أي لا ترثه الذرية- والعلماء لم يرثوا أموالاً وعقارات وإنما ورثوا العلم. همة قوية كانت همة الشيخ فيصل المبارك -رحمه الله- عظيمة وطموحة وعالية وقوية في طلب العلم، والقناعة في الدنيا محمودة، لكن في العلم ومكارم الأخلاق مذمومة، وهكذا كان هذا الشيخ فيصل يرحل من مدينة إلى أخرى ويتلقى العلم، وقد ذكر كل من ترجم له مشايخه الكثيرين مثل الشيخ المؤرخ عبدالرحمن بن عبداللطيف آل الشيخ في كتابه (مشاهير علماء نجد وغيرهم)، والشيخ الفقيه المؤرخ عبدالله بن بسام في كتابه بطبيعته الأولى والثانية (علماء نجد خلال ستة قرون) الطبعة الأولى ذات الثلاث مجلدات الفريدة، و(علماء نجد خلال ثمانية قرون) الطبعة الثانية، و(السيرة) التي هي من أوائل السير للشيخ فيصل التي كتبها الشيخ عبدالمحسن أبابطين لبعض كتبه، والرسالة التي كتبها الباحث أبوبكر فيصل بن عبدالعزيز البديوي، وهي أول رسالة وبحث موجز لسيرة الشيخ فيصل، ثم كتاب الباحث محمد بن حسن المبارك بعنوان (المتدارك من تاريخ الشيخ فيصل بن عبدالعزيز المبارك)، وهو بحث جيِّد وكشف لجوانب مغيّبة عن حياة الشيخ فيصل لم تعرض من قبل، وروى أخباراً ومواقف عن حياته لم تذكر في المراجع التي ترجمت له، وقد استفدت من كتابه هذا في هذا التقرير. رحلات عدة ومما يدل على حرص الشيخ فيصل المبارك -رحمه الله- على العلم أنه رحل عدة رحلات، فقد طلب العلم في دبي وفي رأس الخيمة ورحل إلى الرياض ثلاث مرات، طبعاً الأولى كان صغيراً، لكن الثانية كان قد كبُر، والثالثة قد ارتوى من العلم، لكنه قرأ على قرينه في السن تقريباً الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وذكر محمد بن حسن المبارك في كتابه (المتدارك) أن الشيخ فيصل ابتدأ طلب العلم من عام 1330ه عام إلى 1340ه، ويروي كذلك أنه كان يريد الرحلة إلى الهند إلاّ أنه وجد الشيخ محمد بن مانع لديه المام جيّد في الحديث، فلازم شيخه ابن مانع -وليته سافر إلى الهند- لكان قد استفاد في علم الحديث ومروياته، إذاً فهذه عشرة أعوام سلخها الشيخ فيصل من عمره يجوب منطقة نجد والأحساء والخليج العربي لأجل العلم، ليس له هم إلاّ هذا، وكان هذا أكبر همّه ومبلغ علمه أن يستزيد من العلم ونعمه، والله هذه الهمة التي جعلت الشيخ فيصل أحد العلماء في المملكة، وكما قال الشاعر: وَمَنْ تَكُنِ العَلْياءُ هِمَّةَ نَفْسِهِ فَكُلُّ الَّذِي يَلْقَاهُ فيها مُحَبَّبُ يقول عمرو بن العاص: «المرء حيث يضع نفسه، فإذا أعزها علا أمرها، وإذا أذلها ذل وهان قدره»، فلقد ارتفع نفس الشيخ فيصل فطلب العلم بقوة وجلد وصبر على عذاب السفر والتنقل –رحمه الله-، وهنا لا أستطيع أن أفصل كل حياة الشيخ فيصل، ولكن أذكر المحاور الرئيسية في حياته، خاصةً مرحلة قضاء الجوف التي استقر فيها 14 عاماً، فكانت هي الحياة الحافلة في حياته وسوف نذكرها. نزاهة وعدل وتولى الشيخ فيصل المبارك -رحمه الله- القضاء في عدد من قرى ومدن المملكة، واشتهر بالصرامة في قضاءه، وُفِّق في القضاء، والقضاء كما يقول شيخنا القاضي الأديب حمد الحقيل –رحمه الله-: القضاء صنعة -أي ممارسة-، عندما سأله أحدهم كيف تكتشف الحلول للقضايا، فالشيخ فيصل وفقه الله في قضائه وأحبه الناس، فهو من مشاهير القضاة الذين عُرِفوا بالنزاهة والعدل والتوفيق في البت في القضايا مع عقل وافر وعلم غزير وورع وتُقى وصلاح وقوة شخصية، فهو قوي من غير عنف لينًا من غير ضعف، يقول الشيخ عبدالله البسام في كتابه (علماء نجد خلال ثمانية قرون) بعدما ذكر القرى والمدن التي قضى فيها الشيخ: فهذه تسع بلدان كلها قام بقضائها وأهلها له محبون، وعليه مُثنون لما يتصف به من العدالة والنزاهة والعقل والعلم، وسمعت أكثر من شخص من أهالي ضرما من كبار السن يُثني عليه في قضائه وعدله وكرمه. وحدثني محمد حسن المبارك أن أهالي ضرما كانت عندهم مشكلة المسابيل الزراعية، فلما عُيِّن قاضيًا في ضرما حلّها حلًا موفقًا، فالشيخ فيصل كما أنه مبارك في علمه كذلك مبارك في قضائه وأحكامه، وتولى القضاء العام 1341ه في الصبيخة، ولم يستمر في القضاء فيها سوى مدد يسيرة، ثم عُين قاضياً في أبها للمرة الأولى، ثم عاد الى الصبيخة قاضياً، ثم في قرية العليا، ثم في تربه، ثم عُين في أبها للمرة الثانية، ثم عين قاضياً في القنفذة، ثم في الخرمة، ثم في رنيه بعدما عين في ضرما، وأخيراً في الجوف عام 1362ه. فأل حسن وعندما عُيّن الشيخ فيصل المبارك قاضياً في الجوف أول ما بدأ به بناء الجامع –كما يذكر تلميذه الشيخ حمود البليهد في إحدى لقاءاته التلفزيونية، وكما نقل الشيخ عبدالله البسام في ترجمته للشيخ فيصل، وكما ذكره محمد المبارك في كتابه (المتدارك)، فكان هو الإمام في الجامع والخطيب، وهو الجامعة لتدريس القرآن الكريم للتلاميذ وطلبة العلم، ومعقد مجلس القضاء، والحقيقة والواقع أن مجيء الشيخ فيصل للجوف كان سعادة لأهل الجوف وفأل حسن لهم، فهو باعث النهضة العلمية والتوعوية في الجوف، فكان هو المدرس والمعلم والناصح والموجه والقدوة الحسنة والقاضي والمستشار، بل هو والد الجميع في المنطقة، فقد نشأ على يديه أجيال من الأطفال والصبية والشباب بداية من الكتاتيب حتى مراحل طلب العلم الشرعي. وقت منظم يقول حمد الحقيل عن فيصل المبارك: لقد شاهدت الشيخ فيصل عندما كنت واعظاً للجيش السعودي المرابط لأجل حرب العام 1367ه في فلسطين، يعلّم الأطفال القراءة والكتابة، فكان يهيئ الصبية منذ بواكير التعليم، وهذا برنامجه اليومي في الجوف يذكره مترجموه وهو برنامج كله مشغول بالعبادة والتعليم والقضاء والتأليف، ليس فيه أي فراغ، فكان وقته مقسّم ومنظم ومنح أعظم البركات والنفحات من الله عز وجل في النفع العام لأهالي الجوف، ولو أُعطي الفرصة في قضائه في غير الجوف لكان له آثار في التعليم والإرشاد والتدريس، لكنه لم يمكث في هذه المدن والقرى سوى مدة وجيزة، لكن الله سخره لأهالي الجوف، والبرنامج اليومي كما يذكره تلميذه حمود البليهيد ومحمد المبارك في (المتدارك) والبسام نقلاً عن ترجمة الشيخ فيصل والبديوي صاحب كتاب (المبتدأ والخبر لعلماء في القرن الرابع عشر الهجري)، والبرنامج هكذا يقول تلميذه حمود البليهيد: كان رحمه الله إذا صلى الفجر جلس يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس ثم يصلي ركعتين ويدخل بيته للتأليف حتى يشتد الضحى، ثم يخرج من داخل بيته إلى المجلس المعروف بمجلس القهوة، فيجده غاصًا بالناس والطالبة فيقرأ عليه الطلبة أولاً القرآن، ثم بعد ذلك يشرع في القضاء حتى يؤذن الظهر ثم يخرج للصلاة، فإذا صلى جلس كبار الطلبة يقرءون عليه المتون الاتية: ثلاثة الأصول وعمدة الأحكام والأربعين النووية وكتاب التوحيد وآداب المشي إلى الصلاة والعقيدة الواسطية وزاد المستنقع وبلوغ المرام والآجرومية في النحو ومُلحمة الاعراب والرحبية في الفرائض ومختصر البخاري ورياض الصالحين، ثم أضاف البليهيد: هذه المتون تُقرأ عليه بعد الظهر كلما ختم الطلبة متنًا أعقبه بآخر من تلك المذكورات. محبٌ للعلم ويذكر محمد المبارك قائلاً: وقبل صلاة العصر يلتف حوله سائلين الفُتيا، وقد يذهب الشيخ وطلبته في ذلك الوقت ليكونوا بضيافة الأهالي، ثم أن الشيخ يعود إلى بيته يستقبل الطلبة ليقرأوا عليه سيرة ابن هشام حتى أذان العشاء، ثم يذهبون إلى المسجد ويقرأ عليه أحد الطلبة ثُمناً من القرآن والشيخ يقوم بتفسيره على الحضور حتى تقام الصلاة، وبعد الصلاة يقرأ عليه الطلبة النحو من مُلحة الاعراب والآجرومية، وهو يشرح ويعلق، وهذا دأبه كل يوم عدا يوم الجمعة فبدلاً من الجلوس للقضاء يدخل مكتبه للتأليف والقراءة والتصنيف، وأمّا في الليل فكان رحمه الله يقضي مع نهاره ثلث الليل الأول في التعلم، ثم ينام في الثلث الأوسط، ثم يقوم في الثلث الأخير فيصلي ما شاء الله يقرأ فيها البقرة وآل عمران –لم يدع ذلك إلاّ في مرض موته رحمه الله -انتهى كلام محمد المبارك- من كتابه (المتدارك)، فهذه 14 عاماً أو 15 كانت حياة الشيخ فيصل المبارك قد أوقفها للتعليم والقضاء والعبادة بعيداً عن مظاهر الدنيا، فكان زاهدًا فيها طامعاً في فضل الله عز وجل ومرضاته، محبًا للعلم ونشره بين الطلبة الصغار والكبار، حتى طلاب المدارس النظامية يدرسهم المواريث والنحو –كما يذكر محمد المبارك في كتابه-، فكانت حياته هي تعليم أهل الجوف عامتهم وخاصتهم، فالعامة لهم درس القرآن الذي بعد أذان العشاء، فالشيخ من أوائل العلماء النجديين الذي ألف في التفسير والعناية بتفسير القرآن الكريم ارتجالًا وليس قراءة التفسير والتعليق أحياناً، وبذلك ألف كتابه (توفيق الرحمن في دروس القرآن)، ويُروى أن الملك عبدالعزيز -رحمه الله- عيّنه قاضيًا في المنطقة الشرقية، والشيخ فيصل في الجوف، فكتب إلى الملك عبدالعزيز يستعفي من الانتقال قائلاً: إن لي غرسًا وأنا انتظر ابان ثماره، فعلم الملك أنه يقصد الطلبة، وقد سمعت هذه القصة من أحد كبار السن، ورواها محمد المبارك في كتابه (المتدارك). مؤلفات المبارك والشيخ فيصل المبارك من المكثرين من التأليف، وهو كذلك من علماء نجد القلائل الذين اهتموا بالتأليف، ومنها مختصرات للكتب المطولة، ومع بركة الوقت في حياة الشيخ استطاع أن يؤلف ويثري المكتبة الإسلامية بالمؤلفات، ومنها: (خلاصة الكلام شرح عمدة الأحكام)، (بستان الأخبار مختصر نيل الأوطار)، (تذكرة القارئ مختصر فتح الباري)، (الكلمات السداد على متن الزاد) وهو شرح لطيف وتعاليق جيّدة، (الدلائل القاطعة في المواريث الواقعة)، ويحدثني عبدالرحمن الرويشد -رحمه الله- قائلاً: أنه قرأ على الشيخ فيصل المبارك علم المواريث حينما كان في الرياض قبل توليه قضاء الجوف، ويقول أنه يركز على آيات المواريث ويشرحها لنا لترسخ في أذهاننا، ومن كتب فيصل المبارك، (السبيكة الذهبية على متن الرحبية)، (شرح رياض الصالحين)، وقد طبع أخيراً وهو تعليق على الكتاب، وقد قام الشيخ عبدالمحسن أبابطين رحمه الله صاحب المكتبة الأهلية بطبع مجموعة من كتب الشيخ فيصل وأهمها التفسير، فله فضل النشر في هذه المؤلفات، وكان لا يرتجى من ذلك الربح المادي سوى نشر العلم النافع وبث الخير، وإن كان هناك ربح مادي فهو زهيد جدًا، رحم الله الشيخ عبدالمحسن أبابطين على هذه الجهود في النشر. وبعد حياة جهاد في نشر العلم والتأليف وبث الوعي بين الناس ومحاربة الجهل مرض الشيخ فيصل المبارك وتوفي عام 1376ه في السادس عشر من شهر ذي القعدة رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى. عبدالمحسن أبابطين -رحمه الله- ناشر كُتب فيصل المبارك حمود بن متروك البليهد أحد طلاب الشيخ فيصل المبارك محمد حسن المبارك جامع سيرة الشيخ فيصل المبارك