تشابهت المدن، وتعولمت المطاعم والمقاهي وحتى الأفكار. هذا هو عالمنا اليوم الذي فقدت فيه كثير من المجتمعات لونها وذوقها الخاص وانصهرت في هذه الصورة العالميّة العجيبة. تستقل الطائرة مسافراً بحثاً عن التجديد والجديد فتصدمك المدينة التي نزلت بها حيث لا جديد، اللوحات الدعائيّة الكبيرة ذاتها للعطور التي شاهدت لوحاتها في مدينتك وعلى الناصية الكبيرة المقهى نفسه الذي احتل الأركان الرئيسة في مدينتك وحتى ذلك المطعم العريق لم يعد خاصاً بوجهتك التي خطط لها فقد منح اسمه لمن يدفع فأصبح متاحاً في معظم المدن. ما مصير الحضارات والثقافات والأمزجة والتنوع حينما يتلوّن العالم بألوان موحدة؟ ما يجري الآن أن معظم سكان الكرة الأرضيّة يكادون يشربون القهوة ذاتها التي يقدمها "ستاربكس" ويأكلون الوجبات السريعة ذاتها المتشابهة في كل مدن العالم ويستمعون للأغاني وموسيقى "التوب تن" في عواصم صناعة الأفلام والترفيه. بل ويشاهد قسم كبير من شباب العالم مجموعات الأفلام نفسها التي توفرها وتحتكرها قرابة عشر شركات سينما عالميّة ومعها ثلاث أو أربع شبكات احتكرت الخدمات التلفزيونيّة المنزليّة على رأسها "نتفلكس". هل فقدت المدن دهشتها وإبهارها؟ وهل أصبح أدب الرحلات والمغامرات في حكم الماضي؟ هل أصبح مستقبل الدهشة والمغامرة فقط خارج كوكب الأرض؟ هل يفسر التسابق على حجز مقاعد السفر للرحلات الفضائيّة بعضاً من إشكاليّة هذا العالم الذي تشابهت ملامحه. وعلى مستوى التفكير والمزاج الثقافي نحن نرى كيف تشكلت ملامح روابط فكريّة وأيديولوجيّة عابرة لحدود الأقاليم في ممازجة عجيبة شكلت تكتلات كبيرة بطول العالم وعرضه. ومكمن الخطورة هنا ليس فقط إضعاف المساهمة بمزيج التنوع الإنساني في الثقافة والحضارة، بل انهزام الروح الإبداعيّة لدى الثقافات الأقل حضوراً في ظل طغيان ثقافة العالم الأول التي ملكت الأدوات الفائقة السرعة ومعها القرار السياسي والإبهار في العرض والترويج لرموزها. إضافة إلى ذلك ما يحدث من تأثير الشركات المتعددة الجنسيات على تعزيز ثقافة الاستهلاك لهذه الواردات الثقافيّة وقدرتها على إحداث الأثر والتأثير على القيم المجتمعيّة. وحتى المفاهيم الحقوقيّة بشكل عام ومنها حريّة التعبير وغيرها باتت أسيرة سياسات شركات (مثل يوتيوب/ تويتر/ فيس بوك) التي ملكت المحتوى ومنصة إظهاره وأدوات حجبه وفرض الشروط على مستخدميه حول العالم. حتى أنظمة تشغيل مليارات الحواسيب والهواتف الذكيّة ومعها مثلها من البرامج والتطبيقات تحتكرها شركات بعينها وهي من تضع الشروط باسم الحقوق والواجبات. * قال ومضى: ستظل تراودك الأحلام.. فأنت تسكن قصر الأوهام.