لا حاجة لكثير عناء أن نومئ بطرف واضح إلى هذا الاستقرار الاقتصادي والسياسي اللذين يفضي أحدهما للآخر، فلا استقرار سياسي بلا استقرار اقتصادي، ولعلّ الصورة تحكي عن نفسها، فلا اضمحلال سياسي ولا عدم استقرار نعاني منه كما يرمي به البعض آخرين غيرهم ممن تعاني أنظمتهم من تفكّك برغم تعدد مؤسسات دولهم.. لا نبالغ إن قلنا أننا نعيش أعظم قصّة مشروع وحدوي في العصر الحديث، ولا من قبيل المبالغة والتزيّد إن تباهينا بأننا شهود عصر على معجزة إنسانية مُلهِمة وعظيمة، من قصّة وملحمة الكفاح والنجاح المذهلة التي حققتها المملكة العربية السعودية، معجزة خليقة بالدرس والتأمل والتحليل، فأن تستمر بثبات وصلابة ماخراً عُباب العواصف والتحديات التي تعصف بكيانات دول تُعَد عُظمى وأخرى كُبرى، وغيرها من كيانات تتفاوت في قوتها واستقرارها. هذا الرسوخ لبلادنا، والسير بخُطى وثّابة واثقة –على امتداد عقود- منذ التأسيس، لم يكن رهناً للمصادفة أو الحظ أو الاتّكاء على أمجاد ماضٍ غابر، بل حصيلة تراكم من الخبرات والحصافة السياسية، وقبلها الإيمان الراسخ بنُبل الأهداف والتوجّهات والقيم الروحية التي تنطلق منها وعلى رأسها الدين الإسلامي القويم الذي جعل من التسامح والخير والعدل والمساواة أهم مرتكزاته. من هنا فإنّ حالة البهجة والزهو التي يعيشها السعودين مُبرّرة، بل إن القول بغير ذلك هو مغالطة غير منطقية، ففي الوقت الذي نرى كيانات تتهاوى رمزيّتها وتبدو في غاية الهشاشة حين عجزت عن مجابهة التحديات الراهنة فيما كانت تتشدّق بالقوّة وترى نفسها وصيّة على العالم، وبعضها من دول تناست أدوارها الحقيقية في رخاء ورفاه شعوبها، واستمرأت المماحكات والتآمر والسعي نحو تدمير جيرانها والوقوف على تلّة خرائبها وانقاضها، حالة من الهياج والحُمق السياسي تلبسها، وسخّرت أموالها ومقدّراتها في الإيذاء، مُكبّدة شعوبها ويلات الفقر والظلامية والأمّية والبطالة وقبلها الاضطرابات وفقدان الأمن والأمان لشعوبها. وما يدعو للحزن والأسف أنّ تلك الدول الشريرة من جاراتنا توظّف بغباء وانسياق بالغ الحُمق جهودها للإضرار بمصالحها قبل غيرها، والأنكى من ذلك أنها مواقف تآمرية رخيصة تصب في نزعات غربية لا تضمر للعرب خيراً، بل إنها تسعى بشكل حثيث لبلقنة شعوبنا العربية والمسلمة بهدف تفتيتها وجعلها في عداء أزلي يعوق تطورها وتماسكها، تمهيداً لنهب خيراتها وابتزازها بكافة الوسائل والأشكال. لن ينصفك الآخر أيّاً كان، ما دام ينظر إليك بعين متحاملة ومستريبة، ومُثقَل بأفكار مسبقة، وحمولات فكرية وذهنية، وتحيّزات أيديولوجية لا تخلو من تبخيس وتحقير، ومشبّعة بنفَس تضئيلي كارِه. فالغرب وبنزوعاته المُعلَنة والمضمرة أيضاً، يتّكئ على إرث ثقيل من الأطماع والنزوعات التي لا تخفى على أي مراقب ومتابع، وقد صدَع بهذا التحيّز والاسترابة والأحلام وأوهامها القديمة المتجددة كثير من مفكّريهم، وتبنّوا أفكاراً وتوقّعات ملأى بالحيف وغياب الإنصاف والعدل والموضوعية، متناسياً أننا كعرب، ومسلمين خصوصاً على درجة من التحضّر والتمدين والإنسانية والقيم الروحية النبيلة ما يجعلنا كشعوب، الأرقى والأنضج والأكثر طواعية للأخذ بأسباب التطور والنماء والازدهار وبناء الإنسان وصون حياته وتحقيق رفاهه ورخائه. ولا ننسى ولا ينسى التاريخ أن شعوب العالم المتحضرة، عانت في بدايات نشوئها من طور الهمجية والتخلف والبدائية في السلوك حتى قضت سنن التطور الاجتماعي ونواميس الحياة بأن تتدرّج في الترقّي حتى غدت ما هي عليه الآن، فهذا عالم الاجتماع الفرنسي الشهير غوستاف لوبون يؤكد أن أجداده عانوا طور الهمجية وقد تطلّب خروجهم منه وانتفاعهم بكنوز الحضارة القديمة مساعيّ استمرّت ألف سنة على وجه التقريب، ويعترف بجرأة الباحث المنصف بأنّه مهما كان الأمر لم تكن البلاد التي نودّ استعمارها وقت افتتاحنا ذات حضارة كحضارة اليابان السابقة، ولذا نقول: إنّ آمالنا في إدغام أي شعب أو حمله على التّفَرنُس عبارة عن أوهام خطرة، فلنترك لأبناء المستعمرات عاداتهم ونُظُمُهم وقوانينهم غير ساعين في إلزامهم نظامنا الإداري المعقّد، ومع ذلك فلن يتخلّى هؤلاء القوم عن نظرتهم الازدرائية والنازعة للهيمنة، سيما إذا وجدوا من تفكك العرب والمسلمين ما يتوهمون قدرتهم على تحقيقه، وليس ببعيد أن ينظروا للعرب أنهم فاقدين للتنظيم والتضامن والتلاحم ويزعمون أنّ أفقنا العقلي غير متطوّر، ووعينا الاجتماعي ضعيف، وولاءنا للدولة مُهتزّ، وتطابقنا مع قادتنا غير قوي، والأكثر من هذا يعتقدون أنّه يسود لدينا فقدان ثقة عامّ فيمن يحكموننا فلا نؤمن بهم، ولا شك أن مثل هذه التوهّمات والتخرصات والرجم بالغيب يكذبها الواقع المنظور وتفنّدها الأحداث وحالات الحراك التي تشهدها بلادنا، ولا حاجة لكثير عناء أن نومئ بطرف واضح إلى هذا الاستقرار الاقتصادي والسياسي اللذين يفضي أحدهما للآخر، فلا استقرار سياسي بلا استقرار اقتصادي، ولعلّ الصورة تحكي عن نفسها، فلا اضمحلال سياسي ولا عدم استقرار نعاني منه كما يرمي به البعض آخرين غيرهم ممن تعاني أنظمتهم من تفكّك برغم تعدد مؤسسات دولهم والمصطلحات البراقة التي يتباهون بها من ديموقراطية لم تفلح في تحسين اقتصاداتهم ولا ساهمت في القضاء على البطالة والفقر والانعزالية التي يعانون منها، فضلاً عن عدم الثقة، برغم الوعود التي نراها في انتخاباتهم وبرلماناتهم ومؤسساتهم العديدة وما قد يوهن في ولاء أفرادهم ويضعف في ثقتهم بوعودهم، ولذا فلا جديد حين نؤكد أنّه دون نظام سياسي راسخ لا يمكن للتطوير الاقتصادي ولا الاجتماعي أن يمضيا بنجاح، وهذا ما نزعم -بفخر وثقة- أنّه متحقّق في كيان دولتنا العظيمة قيادة وجغرافية وإنساناً.