غاب عن وجوه الغرباء، وتدّثر بعباءة الناسك وحيداً، تشيّع بمناسك العزلة، وتعفّر قبره باليأس والقنوط، رحل وهو الراسخ كحلم الرجاء المجهض، وبقي رائداً لروح الشعر وجوهره ومعناه في ذاكرتنا الجمعية. ها هو يقول في قصيدته المعنونة ب (سوف أمضي) ذات الرونق الموسيقي والدلالة الرمزية الفريدة قائلا: «سوف أمضي أسمع الريح تناديني بعيداً / في ظلام الغابة اللفّاء والدرب الطويل / فاتركيني اقطع الليل وحيداً». شاعر التأويل والتغريب، أسطورة الحضور الراسخ على أرض القصيدة العربية. إنه الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب ( 1926-1994). ولد في مدينة جيكور من أعمال البصرة، إنها جيكور السيّاب ميلاده وصوت حياته، ينبوع أمومته التي لم تكتمل، جنة البدايات، ثيمة الجمال والشعر، رائحة اللبن، صوت خرير الماء على شط العرب، شذرات ضوء الشمس على أعذاق النخيل، صوت ساقية نخيل أبي الخصيب، لوحة سومرية هاربة من ذاكرة تاريخ بلاد الرافدين، يناجيها بحنين مشوب بحسرة الفراق بقوله: «آه جيكور، جيكور؟ ما للضحى كالأصيل/سحب النور مثل الجناح الكليل/ ... جيكور ديوان شعري/ موعد بين ألواح نعشي وقبري» فشكلت في وجدان السّياب أبعاد حياته الاجتماعية والسياسية والحضارية، وأهازيج لمشاعر الغربة وموعد اللقاء المرتقب. يعدُّ السيّاب من أهم موسّسي الحركة الشعرية الجديدة في القرن العشرين، عمل على الارتقاء بالشعر لغة وصورة وإيقاعا، متمثلاً في الانتقال الحديث من البناء العمودي الكلاسيكي إلى قصيدة التفعيلة، فكان شعره صوت الروح، يكتنز بالمعاني العميقة والدلالات التصويرية والرمزية، مزج الأساطير البابلية والسومرية بذاته القلقة، كمدلول رمزي لعالم حالم يبتعد فيه عن التناقضات ورفض السلطة، ففي قصيدته (رؤيا) رمز إلى روحه بصورة الحب المقترن بالعذاب ب (غنيميد) فمزج بين الرؤية الواقعية والنفسية. وبرغم شعره الغزلي الندي العابق بالصور غير أنه كان يعيش عقدة النساء، والمرأة المثالية في عالمه هي أمه، فكان يسأل عنها فيقولون له (ستعود بعد غدٍ). كان السيّاب نتاجا لظروفه الاجتماعية، فعبر عن أفكاره وآماله وطموحاته بشعره، وتفاعل مع ملابسات الواقع، وآفاقه المستقبلية بكشف العلاقة الجدلية المعقدة ما بين المؤثرات الاجتماعية وظهور الشعر الحر. وصف الكاتب الفلسطيني ناجي علوش تجربة السيّاب الشعرية على الصعيدين الرؤيوي والأسلوبي بقوله «يمر شعر السيّاب بأربع مراحل: الرومانسية والواقعية والرمزية التموزية، ومرحلة الانكفاء على الذات في فترة اشتداد المرض». وعلى الرغم من أن السيّاب من المجددين في الشعر العربي إلا أنه كان شديد الانتماء لعروبته ومناضلا ثائرا لبلاده، أوقف بندول الوقت المتراقص أمام مشهد تراجيدي غير مسبوق، محتشد بالمعاني والصور البديعة والقصص والمشاهدات المجردة، في قصيدته (أنشودة المطر) في حالة رمزية عميقة الدلالة حيث إن المطر عبارة عن حمولة ثقيلة من الحزن، هو ماء العين، كما هو ماء السماء فيقول: «والموت والميلاد والظلام والضياء/ فتستفيق ملء روحي، رعشة البكاء/ ونشوةٌ وحشيَّةٌ تعانق السماء/ كنشوة الطفل إِذا خاف من القمر!/ كأن أقواس السحاب تشرب الغيومْ/ وقطرةً فقطرةً تذوب في المطر». توشح حزنه ومعاناته، ومات وحيداً مريضاً بعيدا عن وطنه، ونُقش على قاعدة تمثاله هذه الأبيات: «الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلامْ/ حتى الظلامُ هناك أجمل، فهو يحتضن العراق». بدر شاكر السياب