من هنا من المملكة العربية السعودية أرض الثقافات والحضارات، ومن أرض الجبلين في منطقة حائل تحديداً، ومن قبيلة طيء القبيلة العريقة ظهرت إرهاصات النقد الأدبي، وملامحه الأولى مع (أم جندب الطائية) في قصة الاحتكام الشعري الذي دار بين زوجها امرئ القيس الكندي، وعلقمة الفحل التميمي، وأَثبَتتْ روايةَ هذه القصة مصادرُ عديدةٌ من مصادر الأدب القديمة، ك (الشعر والشعراء)، و(المعاني الكبير) لابن قتيبة، و(الأغاني) لأبي الفرج الأصبهاني، و(الموشح) للمرزباني، وشرح الأعلم الشّنتَمري لديوان امرئ القيس. وقد حظيت هذه القصة بردود أفعالٍ نقدية متباينة، وبخاصةٍ لدى النقاد المعاصرين، فأنكرها بعضهم، كطه حسين، وشوقي ضيف، وقَبِلها آخرون، كبدوي طبانة، ومحمد إبراهيم نصر، ووقفت طائفة أخرى موقفاً وسطاً، فلم ترفض القصة، وإنما رفضت بعض ما جاء فيها، كاشتراط اتحاد القصيدتين في الروي والقافية، وقد ذهب إلى هذا الرأي طه أحمد إبراهيم، ومحمد طه الحاجري، وليس هذا يهمنا كثيراً، فقد كفانا الأستاذ الدكتور محمد الهدلق عناء البحث الطويل حول صحة هذه القصة، وفصّل القول فيها تفصيلاً، إذ توصّل إلى قبول أصل القصة في دراسته القيمة (قصة أم جندب لامرئ القيس وعلقمة الفحل) التي نُشِرت في مجلة جامعة الملك سعود (الآداب) العام 1410ه/1990م، العدد الأول، ص3 – 35. ومهما تكن الرواياتُ مختلفةً حول صيغ الحكم النقدي الذي أطلقته هذه المرأة الطائية، فإن أكثر تلك الروايات تتفق حول الحكم النقدي ذاته، وصحة مجيئه، وصدوره عن امرأة، وهذا هو الذي يهمنا في هذا المقام، وهو أنَّ حُكماً نقدياً أمام شاعرين فحلين من شعراء الجاهلية (امرئ القيس وعلقمة الفحل) خرج من رحم امرأة، بعيداً عن الجدل الحائم حول كون الشاعرين عاشا في فترة زمنية متقاربة، أو متباعدة، وإن كان الأستاذ الدكتور محمد الهدلق قطع الشك باليقين عندما ذهب إلى أن معظم القرائن تؤكد معاصرة علقمة الفحل لامرئ القيس، وأن التشكيك في معاصرتهما ليس له سند قوي يؤيّده. وفي ضوء هذه القصة التي تُجمِع أكثر الروايات الأدبية على صحتها نستنتج أن المرأة العربية الطائية (أم جندب) كانت أول من طرق باب النقد الأدبي في تاريخ الأدب العربي، وهي ليست أول ناقدة فحسب، بل هي أول من فتح باب النقد الأدبي القديم على مصراعيه، وشرّعت نوافذه، فصارت بذلك مُؤسِّسةً في هذا المجال، ولا سيما أن شاعرين فحلين قد رضيا بأن تكون حكماً بينهما، بصرف النظر عن الأسباب التي دفعتهما لترشيحها، والأحكام الدقيقة التي انطلقت منها. هذه المحاكمة النقدية إذن هي أول لجنة نقدية لمسابقة شعرية في تاريخ الأدب العربي عموماً، وقد سبقت بذلك محكمة النابغة الذبياني في سوق عكاظ إذا نظرنا إلى أسبقية امرئ القيس وعلقمة الفحل، ومن هنا يتضح أن المرأة العربية لم تكن موضوعاً أدبياً عارضاً، أو (ثيمة) فنية عابرة يوظفها الشعراء في شعرهم نَسِيبَاً، وتشبيباً، بل هي الأصل الذي منه وُلِد النقد الأدبي، وهي الأساس الذي أطلق معايير الجودة الفنية الأولى للشعر العربي.