العمل ليس عيباً، سواء في مهن مرموقة أو مهن بسيطة، طالما الإنسان يكسب رزقه بطريقة مشروعة ونظامية، تثمر عن رزق حلال، هكذا تربينا وعلى هذا نشأنا، ولنتذكر آباءنا وأجدادنا الذين كانوا يرتزقون من وراء صيد اللؤلؤ، ويقضون أياماً في غربة مياه الخليج، يشمرون عن سواعدهم، ويبحثون عن صيدهم الذي يوفر لهم الحد الأدنى من رزق طيب حلال، يسترهم ويقيهم وأبناءهم ذل السؤال. مشهد الأجداد والآباء مع صيد اللؤلؤ بقدر أنه مشرف ويبعث على الفخر والتباهي، يقابله مشهد آخر مناقض تاماً، نراه منتشراً هذه الأيام، يكشف عن مهن بسيطة، هي بمثابة سلم نحو المجد، يتسلقه المواطن عامداً متعمداً، للوصول إلى أهداف أخرى غير الرزق والستر اللذين بحثا عنهما الآباء والأجداد. فبقدر السعادة والفخر الذي كنتُ أشعر به، عندما أرى شاباً سعودياً، وقد احتل مكانه داخل سيارة بيع المأكولات والمشروبات في المواقع المزدحمة، بقدر الخيبة والإحباط عندما يغادر هذا الشاب مهنته بلا رجعة، وينتقل إلى وظيفة أخرى، كان يخطط لها وينتظرها، عقب ساعات من نشر قصة كفاحه مع عربة المأكولات، سواء في السوشال ميديا، أو عبر فنان مشهور يزور الشاب في عربة المأكولات، ويلتقط معه صوراً وينشرها في حسابه بمواقع التواصل من باب الفخر والاعتزاز. قد لا يكون العيب في الشاب الذي يدعي الكفاح مع عربة المأكولات، أو في الفنان، وإنما في الجهات الخاصة التي تتجاوب بسرعة الصاروخ مع قصة الكفاح الوهمية، وتسارع في توظيف الشاب في مهن راقية، براتب جيد، تقديراً لكفاحه المصطنع. عربات المأكولات السريعة مشروعات تجارية ناجحة، تدر دخلاً جيداً على أصحابها إذا ما اهتموا بها، وليست وسيلة لاستدرار العطف، وتسول الوظائف الحكومية والخاصة، وعندما توفر الجهات الخاصة وظائف لهؤلاء الشباب من باب التجاوب السريع منها مع حالاتهم، فهي وكأنها تؤكد أن هذه المهنة وغيرها ليست في مستوى المواطن السعودي ولا تناسبه، وينبغي أن يغادرها إلى وظائف أخرى، وإذا كان هذا تفكير هؤلاء، فماذا سيكون تفكير المواطن نفسه وأفراد المجتمع؟ ينبغي أن نعي أن سوق العمل السعودي في ظل رؤية 2030 غير سوق العمل قبلها، فالرؤية تدفع المواطن لشغل كل المهن بلا استثناء والإجادة فيها، وأصبحنا نرى الموظف والموظفة السعوديين وقد احتلوا أماكنهم في العديد من الوظائف التي كانت حكراً على الأجانب، وليس من المنطق أو المعقول أن ندعي أن مهنة ما أقل بكثير من أن يتولاها مواطن، فهذا تفكير يفسد أهداف الرؤية ويربك مخططها العام. استعانة أصحاب عربات المأكولات بالمشاهير للترويج لهم، ظاهرة مخيفة ومقلقة، وصلت إلى حد "الوصفة السحرية" لتحقيق الطموحات، هذه الظاهرة تهدد المبادئ والثوابت التي من المفترض أن ترتقي بسوق العمل السعودي، وقد جاء الوقت لمواجهة هذه الظاهرة والحد من أضرارها النفسية والاجتماعية، وإلا أصبحت هناك مهن خاصة بالسعوديين وأخرى خاصة بالوافدين، وهذا خطأ فادح نتائجه ضارة للجميع.