على الرغم من انسحاب الولاياتالمتحدة من الاتفاق النووي، وفرضها عقوبات على طهران بشكل أحادي، إلا أن الاتفاق مسَّ أطرافاً أخرى، وثمة أسباب وتداعيات قد طالت الأطراف الخمسة الباقية الموقعة على الاتفاق، وامتدت لتشمل فاعلين إقليميين من غير الموقعين، نظراً لتعقد مصالحهم وترابطها ما بين الولاياتالمتحدةوإيران. لذلك نستعرض في هذه الحلقة مواقف أهم اللاعبين المرحبين والمعترضين على هذا الاتفاق؛ لأن سلوك إيران مرتبط بشكل مباشر ومرهون بمواقف هذه القوى. مواقف شركاء الاتفاق النووي أ. أوروبا ما بين واشنطنوطهران أثار إعلان الولاياتالمتحدة الانسحاب من الاتفاق النووي بشكل أحادي في 8 مايو 2018 استياء الدول الأوروبية الموقّعة على الاتفاق، المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا، فأصدر مسؤولو الدول الثلاث بيانًا رسميًا يعربون فيه عن قلقهم من قرار الولاياتالمتحدة بالانسحاب من الاتفاق وشددوا على التزامهم به وعلى أهميته لأمنهم الجماعي، فصرحت الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والأمنية فيديريكا موغيريني في 13 أكتوبر 2017م: «لا نستطيع كمجتمع دولي أن نسمح بإفشال اتفاق نووي نافذ... والصفقة النووية ليست اتفاقية ثنائية ولا يملك أي بلد إنهاءها بمفرده من جانب واحد»، وذكر البيان المكتوب لموغريني نيابة عن الاتحاد الأوروبي «أن الاتحاد سوف يظل ملتزماً بالتنفيذ الكامل والفعال للاتفاقية النووية، طالما استمرت إيران في تنفيذ التزاماتها المتعلقة بالأسلحة النووية». وحذر رئيس المجلس الأوروبي دونالد تاسك في 16 مايو 2018م، من الإجراءات المتقلبة للرئيس الأميركي دونالد ترمب، ولخص الموقف الأوروبي قائلًا: «مع أصدقاء مثل هذا، من يحتاج إلى أعداء؟» في إشارة إلى ترمب والآثار السلبية على أوروبا إثر قرار الانسحاب الذي فقد تجاهل المخاوف الأمنية لأوروبا. وأضاف «تاسك»: «لكن بكل صراحة، يجب أن تكون أوروبا ممتنة للرئيس ترمب، لأننا بفضله تخلصنا من كل الأوهام، لقد جعلنا ندرك أنه إذا كنت بحاجة إلى يد مساعدة، فستجد واحدة في نهاية ذراعك»، في إشارة إلى أن أوروبا يجب أن تفعل كل ما في وسعها لحماية نفسها. فالاتحاد الأوروبي يعد غرب آسيا هو الجوار المباشر له، فسباق التسلح النووي والحرب المحتملة ضد إيران، ستؤثر بشكل مباشر على أوروبا، خصوصاً تدفّق اللاجئين الذي تعاني منه منذ سنوات. أوروبا تخفق في تعويم النظام الإيراني الغارق فالاتحاد الأوروبي الأوروبي يعد الاتفاق النووي مكسباً للدبلوماسية الأوروبية كما أكدته موغريني في 8 مايو 2018م، «إن الاتحاد الأوروبي عازم على المحافظة على الاتفاق الذي جاء بعد 12 عامًا من الدبلوماسية»، الإضافة إلى أن إلغاء الاتفاق يهدد المصالح الاقتصادية الأوروبية مع إيران التي توسعت بعد توقيع اتفاق 2015م، فارتفعت قيمة التجارة بين إيران والاتحاد الأوروبي من 7.94 مليارات يورو في عام 2015م إلى 21.6 مليار يورو في عام 2017م. وأعلنت الدول الأوروبية في يناير 2019م، عن اقتراح آلية مالية جديدة تدعي «انستكس» تهدف لحماية الشركات الأوروبية من العقوبات الأميركية، وإلى التبادل التجاري مع إيران ليشمل الغذاء والدواء والمنتجات الغذائية، وتسهيل المعاملات المالية بين إيران والدول الأوروبية عبر المقايضة باليورو بدلًا من الدولار خارج النظام المالي العالمي الذي تهيمن عليه الولاياتالمتحدة، لكن هذه الآلية لم يُكتب لها النجاح حتى اللحظة. وعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبي يبحث عن مخرجات إلا أن الشركات الأوروبية لم تنتظر مدى فعاليتها فبادرت بالانسحاب من إيران خوفًا من أن تطالها العقوبات الأميركية، وبالتالي حرمانها من الوصول إلى الأسواق الأميركية، كذلك فقدان حساباتها الجارية في البنوك الأمريكية، كما تخشى البنوك من العقوبات المالية الباهظة التي تفرضها الولاياتالمتحدة، وليست الغرامة ذات العشرة مليارات دولار التي فرضت على البنك الفرنسي بي إن بي باريبا في النصف الأول من عام 2014م لتعامله مع شركات إيرانية مدرجة في قوائم العقوبات الأمريكية الا مثال لما يمكن ان تفعله واشنطن. ويقتبس تقرير "مجموعة الأزمات الدولية" المنشور في يناير 2018 عن أحد المصرفيين الأوروبيين قوله: "بالنسبة لمعظم البنوك الدولية، فإن اتفاق خطة العمل الشاملة المشتركة قد مات بالفعل". ورغم جهود الاتحاد الأوروبي لمحاولة الحفاظ على الاتفاق النووي قائماً باقتراح آليات لتخفيف العقوبات الاقتصادية الأميركية على إيران مثل «انستكس» المحصور أساساً في تيسير المعاملات التجارية في قطاعات المستحضرات الصيدلانية والطبية والزراعية، أو تنشيط قانون الحظر لعام 1996م، والذي يقضي بعدم امتثال الشركات الأوروبية للعقوبات الأميركية، أو السماح لبنك الاستثمار الأوروبي بالتعامل مع الاستثمارات في إيران، إلا أن جميعها قد باء بالفشل. فالعقوبات الأميركية على إيران قاسية كما يراها الاتحاد الأوروبي، لأنها تحدّ من وصول إيران إلى التمويل الدولي، وتعاقب الشركات متعددة الجنسيات التي تنفذ معاملاتها بالدولار الأميركي. فحجم المصالح التجارية والاقتصادية الأميركية مع إيران ضئيل جداً، مقارنة بنظيرتها الأوروبية، فقد بلغ حجم صادرات ألمانيا، الشريك التجاري الأوروبي الأكبر لإيران، 2.95 مليار يورو في عام 2017م. لذلك يسعى الاتحاد الأوروبي لإنقاذ الاتفاق النووي لتحقيق أهداف اقتصادية وسياسية وأمنية، والرغبة في تحقيق مزيد من الاستقلالية المالية والمصرفية لا تتبع تقلبات السياسة الأميركية، لكنه في الوقت نفسه يخشى السلوك الإقليمي لإيران، وإصرارها على تطوير برنامج الصواريخ الباليستية، ودعمها الإرهاب، وتدخلها السافر في الشؤون الداخلية لدول المنطقة. فالاتحاد الأوروبي يعي تماماً ضآلة المصالح التجارية والاقتصادية له مع إيران إذا ما قورنت بنظيرتها مع الولاياتالمتحدة، كما يعي أن دعمه للاتفاق النووي محدود ومؤقت ولا يمكن لإيران الرهان عليه طويلاً. ب. روسيا والتوازن الحذر واصل الموقف الروسي دعم إيران رسمياً دون أن يملك التأثير فعلياً، مما يمكن التعويل عليه على المدى الطويل، مثلما صرح بوتين في 15 مايو 2019م، في سياق مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره النمساوي، موجهاً كلامه لإيران، أن «روسيا ليست فرقة إطفاء حرائق، ونحن غير قادرين على إنقاذ كل شيء، خاصة ما لا يعتمد على إرادتنا بالكامل». وواصل تصريحه داعياً إيران إلى الحفاظ على الاتفاق النووي، كون روسيا أحد أطرافه الستة، لكن في حقيقة الأمر أن روسيا قد انتفعت من إلغائه أميركياً على صعد عدّة. ولقد استفادت روسيا من ارتفاع أسعار النفط على إثر الأزمة كونها أحد مصدري النفط عالمياً، كما أن الانخفاض المفاجئ في صادرات النفط الإيرانية قدّم ذريعة لروسيا لزيادة حصتها في السوق العالمية ضمن اتفاقية فيينا مع أوبك لتعويض نقص النفط الإيراني. أيضاً انشغال الولاياتالمتحدةبإيران قلل من تركيزها في مناطق نزاع أخرى، كالتدخل الروسي العسكري في شرق أوكرانيا، واحتلالها لشبه جزيرة القرم، والتدخل في الشؤون الداخلية لأوكرانية وبيلاروسيا ومناطق أخرى من العالم، وبالفعل قد جاء في تقرير ستراتفور للربع السنوي الثالث لعام 2019م أن أزمة إيران تحتل قائمة أولويات أجندة السياسة الخارجية الأمريكية. كذلك استفادت روسيا من نقص الموارد المالية الإيرانية التي أدت إلى انخفاض قدرتها على دعم ميليشياتها في الخارج، في توسيع نفوذها وزيادة مكاسبها في سورية بعدما تحوّل تحالفهما من دعم نظام الأسد إلى مرحلة افتراق المصالح واقتسام الغنائم والمنافسة حول الهيمنة، خصوصاً بعد التقاء المصالح الأميركية والروسية والإسرائيلية على إخراج إيران من سورية. كما صبَّ الانقسام حول الاتفاق النووي بين الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة في مصالح روسيا الاستراتيجية، فأحد أهم أهداف روسيا السياسية والأمنية هو تقويض الوحدة بين الغربيين، فأي خلاف داخل التحالف الغربي يؤثر سلباً على قوتهم، ويعزز قدرات أعدائهم. لكن هذه المصالح التي جنتها روسيا لا تعني أنها تدعم العقوبات الاقتصادية المكثفة التي تلت انسحاب الولاياتالمتحدة من الاتفاق النووي، وذلك لأسباب معروفة، إذ من مصلحتها - كما ترى - إبقاء إيران لاعبًا مهمًا في المنطقة، والحفاظ على المنطقة متعددة الأقطاب. وتعتقد روسيا أن الاتفاق النووي يعزز الأمن الروسي، فبقاء إيران خالية من الأسلحة النووية يصب في صالحها، لأن كلاً منهما يشترك في منطقة بحر قزوين الغنية بالطاقة، إضافة إلى أن إيران شريك مهم لروسيا في مجال شراء الأسلحة. وربما تقدم روسيا بعض الدعم الدبلوماسي والاقتصادي لإيران لتتحمل الضغوط الأميركية، كالتبادل التجاري، وتقديم المشورة لتهريب النفط، والتحايل على العقوبات.. إلخ، لكن هذا الدعم لن يأتي على حساب مصالح روسيا وشركاتها، وما انسحاب شركة (روس نفت) الحكومية من إيران إثر العقوبات الأميركية إلاّ دليل على ذلك. وأيضاً لا يمكن لإيران أن تعوّل كثيراً على دعم اقتصادي روسي، فالاقتصاد الروسي لديه من الأزمات الداخلية الكثير بعد تطبيق العقوبات الأميركية والأوروبية عليه. ج. الصين وأولوية المصالح تعد جمهورية الصين الشعبية الشريك التجاري الأهم لإيران، وأحد أطراف الاتفاق النووي، وأكبر مستوردي النفط الإيراني، فشكلت التجارة الإيرانية مع الصين عام 2017م ثلث إجمالي التجارة الخارجية الإيرانية، بواقع 37 مليار دولار، كما تعد إيران أحد شركائها الرئيسين في مبادرة الحزام والطريق الاستراتيجية، ما جعلها هدفًا للتقارب الصيني في ظل التنافس الاستراتيجي مع الولاياتالمتحدة. وانتقدت الصين انسحاب الولاياتالمتحدة الأحادي من الاتفاق النووي، مؤكدة دعمها استمرار الاتفاق النووي، والحوار بدلاً من المواجهة، وكانت وجهة الزيارة الأولى لوزير الخارجية الإيراني بعد انسحاب الولاياتالمتحدة من الاتفاق هي الصين، ما يشير إلى أهمية بكينلإيران في تخفيف آثار العقوبات. فاستقرار إيران التي يمر منها أحد أهم ممرات مبادرة الحزام والطريق مهم للمصالح الصينية الاستراتيجية، فإيران توفر للصين سوقاً استهلاكياً يتجاوز ثمانين مليون نسمة، كما النفط الإيراني مهم لأمن الطاقة الصيني الحريص عن تنويع المصادر. لكن من طرف آخر نجد أن الولاياتالمتحدة هي الشريك التجاري الأكبر والأبرز للصين، إذ يصل حجم التبادل التجاري بينهما إلى 600 مليار دولار، ما يجعل التبادل التجاري الصيني مع إيران رقماً هامشياً قد لا يذكر، وبالفعل أعلنت الشركات الصينية عن توقف استيرادها للنفط الإيراني خوفاً من أن تطالها العقوبات الأميركية، ودليل ذلك إعلان شركة (سينوبك) وقف تطوير حقل (يادافاران) النفطي. فالمشهد أمامنا الآن هو استمرار التبادل التجاري ما بين الصينوإيران على نطاق ضيق جداً من خلال تعاون شركات صينية صغيرة ومتوسطة الحجم، والتي لا تمتلك مصالح في الولاياتالمتحدة. لهذا تعلم الصين أنه يجب عليها التوازن بين دعمها لإيران، وعلاقاتها التجارية مع الولاياتالمتحدة، وعلاقاتها المتنامية مع خصوم إيران في العالم العربي عموماً، ودول الخليج خصوصاً. كاسبون وخاسرون في المنطقة الدول الإقليمية ذات الصلة أ. ترحيب سعودي - إماراتي رحبت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بانسحاب الولاياتالمتحدة من الاتفاق النووي، وعرضتا تعويض حصة إيران النفطية في السوق العالمية حتى لا يتأثر المستوردون سلباً جراء العقوبات. كما أيدت المملكة والإمارات تقويض الصفقة، والضغط على إدارة الرئيس ترمب للتخلي عنها، إذ لم تكن مصلحتهما من الاتفاق منع إيران من حيازة السلاح النووي فحسب، بل كانتا تأملان أيضاً في تغير استراتيجية إيران التوسعية في المنطقة، حيث استغلت إيران الاتفاق سياسياً واقتصادياً لزيادة تدخلاتها في المنطقة العربية، فكثفت من وجودها في سورية، وضاعفت من دعمها لميليشيا حزب الله وميليشيا الحوثي وميليشيا الحشد ونقل تكنولوجيا الصواريخ إليها، لتطويق دول مجلس التعاون، وتهديد أمن مياهه. لهذا ألغى انسحاب الولاياتالمتحدة من الاتفاق مكتسبات إيران في تدخلاتها السلبية بأمن الدول، وحدَّ من دعمها المالي المباشر لميليشياتها الإرهابية، وحمل في الوقت نفسه مكاسب كبيرة للمملكة والإمارات من خلال تقويض الدعم المالي والعسكري الذي تقدمه إيران للحوثيين، كما جنتا مكاسب اقتصادية من كلال تعويض نقص النفط في السوق العالمية بعد فرض العقوبات على إيران. فالمنطق السعودي والإماراتي يرى أن الاتفاق النووي لم يردع جماح إيران عن سياساتها العدوانية التخريبية في المنطقة، ففي ظل الاتفاق النووي ورفع العقوبات عنها طورت قدرتها الصاروخية والعسكرية. كذلك أحد أهم تداعيات العقوبات الأميركية على إيران تغير طبيعة علاقات إيرانبالعراق، بينما كان العراق أبرز مناطق النفوذ الإيراني الذي يعد السيد الآمر في ساحته السياسية، رأى العراق أن إيران أصبحت عبئًا عليه في وقت حرج تنظر فيه إيران إلى العراق بوصفه إقليماً تابعاً لها قد تستغله في تهريب النفط للعالم الخارجي، ما أدى ذلك إلى تقارب سعودي - عراقي من خلال زيارات متبادلة بين الجانبين، وتقديم المملكة عروضاً لمشروعات استثمارية وتنموية ضخمة للعراق، فأي تقارب بين الجانبين سيخصم من رصيد النفوذ الإيراني، ويحد من توغلها في العراق. ب. تركيا وانحيازها لإيران تتمثل محددات التعاون التركي - الإيراني ودوافعه في الحدود المشتركة، والتعاون في مجالي الطاقة والاقتصاد، إذ تستورد تركيا الغاز الطبيعي الإيراني الذي يحل في المرتبة الثانية استيراداً بعد الغاز الروسي، وأيضاً الاتفاق حول ملف الأكراد، وغيره من الملفات. أما محددات التنافس فيختلف ويتفق الطرفان في الأدوات التي يستخدمانها في تعزيز نفوذهما بالمنطقة، وتحدد قاعدة المصالح المشتركة تغليب أحد الجانبين إما التعاون أو التنافس، وقد انحاز الموقف التركي في قضية الاتفاق النووي إلى جانب إيران، وعارض فرض العقوبات، وندد بالموقف الأميركي، ويمكن فهم هذا الموقف في إطار المكاسب التركية الكبيرة من الاتفاق النووي، أو لأجندات إقليمية غير بريئة. فإيران تعد الاتفاق النووي اعترافاً بحقها في تخصيب اليورانيوم، بينما تركيا تعده مكسباً قد تجد نفسها في هذا الموقف مستقبلًا، فالطموح التركي لتطوير الطاقة النووية لا يخفى على أحد. كما أن تركيا تعد الاتفاق النووي امتداداً لجهدها التفاوضي الأساسي الذي بذلته عام 2010م بمشاركة البرازيل والمسمى ب «إعلان طهران». إضافة إلى ذلك رغبة تركيا في تأمين وجودها في مناطق نفوذها، وخصوصاً في سورية والعراق، فالاتفاق النووي يدعم هذا الاتجاه على حساب المصلحة العربية، وتقويضه يهدد وجود الحليفين وتدخلاتهما في المنطقة. فالانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي يهدد هذه المكتسبات، إضافة إلى تأثر تركيا من قطع إمدادات الطاقة ووقف تجارتها مع إيران، وأيضاً تعقد ملفات التنسيق التركي - الإيراني. لذلك أي دعم تركي لإيران قد يعرضها لعقوبات، ربما تفرض عقوبات على شركاتها، وتمنع من دخول السوق الأميركية، فالاقتصاد التركي بالأساس يواجه أزمات لا يرغب في توسيعها. وفعلاً نجد أن تركيا أغلقت موانئها أمام النفط الإيراني، في امتثال كامل للعقوبات الأميركية بعد انتهاء مهلة الاستثناءات، وأعلنت أكبر شركة تكرير نفط تركية «توبراش»، توقفها عن شراء النفط الإيراني خوفًا من العقوبات. لكن من الجانب الآخر، هناك مكاسب مهمة لتركيا من الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، أهمها أن الحصار الاقتصادي لإيران يقلص نفوذها بالمنطقة، فيتوقف مع مرور الزمن دعمها المالي والعسكري للميليشيات والأنظمة الموالية لها، ما يمثل فرصة لتركيا لتعزيز نفوذها خصوصاً في سورية. لهذا تبقى الخيارات التركية في دعم إيران محدودة جدًا، وربما يتحقق التبادل التجاري المحدود جداً عبر التداول بالليرة التركية بعدما وافق البنك المركزي التركي والإيراني رسميًا على التداول بعملاتهما المحلية في 2017م، أو بالاعتماد على الحدود البرية المشتركة دون الحاجة للجوء إلى النظام المصرفي الدولي. فتأمين التبادل التجاري بين الجانبين بعيدًا عن العقوبات الأميركية من الممكن التوصل إليه عبر آلية مشابهة ل«إنستكس» الأوروبية، وهذا ما أشار إليه وزير الخارجية التركي أثناء لقائه نظيره الإيراني. ج. إسرائيل: خطوة شجاعة رحبت إسرائيل بانسحاب الولاياتالمتحدة من الاتفاق النووي، ووصفته بالخطوة الصحيحة والشجاعة، وأن الاتفاق كان وصفة ل «كارثة». وترى أن الاتفاق النووي لم يقدم حلاً نهائياً وحقيقياً للتهديد النووي الإيراني، كما أنه عزز قوتها العسكرية، ومنحها الفرصة لتوسيع نفوذها الإقليمي. نظام الشر.. يتألم العقوبات والداخل الإيراني حصلت إيران على مكاسب اقتصادية كبيرة بعد إبرامها الصفقة النووية، ورفع العقوبات الاقتصادية، وتمكنت من استرداد أكثر من 100 مليار دولار من عائدات النفط المجمدة لسنوات في المصارف الأجنبية بفعل العقوبات، وفتحت الباب أمام الشركات الاستثمارية، وأبرمت عقوداً بالمليارات في مجالات الطاقة والصناعة والخدمات، وتمكنت من تصدير النفط وبيعه بالعملة الأجنبية. فقال الرئيس الإيراني روحاني في 8 مايو 2018م، إن الولاياتالمتحدة اليوم «تشن علينا حربًا نفسية واقتصادية، ولكننا لن ندع ترمب ينجح في ذلك... والتاريخ أثبت أن أميركا لا تلتزم بأي اتفاقيات، بل تخون الدول دوماً». لكن إعلان الرئيس ترمب الانسحاب من الاتفاق النووي، وإعادة فرض عقوبات اقتصادية قاسية على إيران، مثّل انتكاسة لهذه المكتسبات. وتضمنت العقوبات الأميركية على إيران قطاع تجارة الذهب والمعادن الثمينة، ومشتريات الدولار، وقطاع الصناعات المعدنية المتعلقة بالسيارات والطائرات التجارية، وما يرتبط بهما من قطع وخدمات، وبسبب ضخامة حجم الأيدي العاملة التي يوظفها هذا قطاع، أدى إلى حراك عمالي ضد الملالي. وتدرجت العقوبات في نوفمبر 2018م حتى شملت مبيعات النفط والبتروكيميائيات، مع منح استثناءات لثماني دول لمواصلة شراء النفط حتى مايو 2019م، ثم تلتها حزم أخرى من العقوبات الاقتصادية، فانخفضت صادرات النفط الخام لإيران بحدّة من 2.5 مليون برميل يومياً في 2017م إلى مليون برميل يومياً في نوفمبر 2018م، ثم ارتفعت مؤقتًا إلى 1.5 مليون برميل يومياً في فبراير 2019م، بفعل الإعفاءات الأميركية للدول الثماني. وبعد وقف تجديد الإعفاءات في مايو 2019م ضمن سياسة «الضغط الأقصى» الأميركية تلاشت الصادرات النفطية باستثناء المهرب وهو رقم قد لا يذكر، ثم رافق ذلك انسحاب الشركات الأجنبية من إيران، مثل جينرال الكتريك الأمريكية، وتوتال الفرنسية، وبيجو للسيارات، وميرسك السنغافورية وغيرها. فانعكس ذلك على الاقتصاد الإيراني، وانهارت العملة المحلية وتردى مستوى المعيشة، الأمر الذي دفع الشعب إلى الخروج باحتجاجات وتظاهرات كبيرة شملت كل المدن الإيرانية بنهاية عام 2017م وبداية 2018م، منددة بالمرشد الإيراني وتدخلاته السافرة في الشؤون العربية، وصرف الأموال على ميليشيات إرهابية على حساب معيشة المواطن الإيراني. ختاماً، لقد كان الاتفاق النووي أهم الرهانات التي عوّل عليها ملالي طهران في دعم الميليشيات الإرهابية، والتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية على حساب تحسين معيشة المواطن الإيراني، وفي حال لم تتعجل الولاياتالمتحدة بإنهاء المشروع النووي الإيراني بشكل جذري، سيواصل الملالي اتخاذ مزيد من الإجراءات لتطوير هذا المشروع بوصفه وسيلة أرغمت الغرب على التفاوض وتقديم التنازلات، إضافة لدفع ميليشياتها المسلحة في الخارج إلى مواجهة القوات الأميركية وحلفائها بالمنطقة. غداً في الحلقة الثالثة من الملف النووي الإيراني نتطرق إلى استشراف سيناريوهات الأزمة الأميركية - الإيرانية، ومآلاتها على دول المنطقة والعالم أوروبا حاولت التمسك بالاتفاق النووي دون جدوى