"يخيم على المصايف الجنوبية شيء من الحزن بعد مغادرة المصطافين وعودة الهدوء إليها وتوقف الحركة " محمد بن حسن العمري إنه الشعور الوجودي الذي بقي يحوم في رأس ذلك الجنوبي، شعور معقّدٌ ببساطته، وبمُسلماته. مجهول بِالمعروف والملموس، ومعروف بالمجهول والملموس في الوقت ذاته. فزخات المطر التي لا تكاد تنفك عن نشر سحائبها على رؤوس الجبال والأشجار شكت من الوحشة، وأي وحشة تدفع بصاحبنا وهو يمضي تحت ظل شجرته المعمرة غير مبالٍ بطبق العريكة الذي اعتاد أكله كل صباح. آخذٌ به مشهد طوق الزهور الذي ابتاعه أحد السائحين لطفلته، فأخذ معه فرحته ثم ولى. سارقًا من ذلك البائع متعة كان يظن بأنها باقية، لكنها سرعان ما زالت من ضحكة عينيه، بمجرد صمت المكان، وبيع جميع أطواق الزهور. لا تمتد يده لطبق العسل، فهو مشغول بالكيس الذي كاد أن يطير لولا أن فلاحًا عبأه بعناقيد العنب والخوخ، مثل أغصان مثقلة تركها باعة الفاكهة في الأيدي تتدلى، فراحت تلتصق رائحتها بثيابهم. شيئًا فشيئًا حتى صارت كرحيق يملأ الكف ويذكرهم بالمكان والزمان. ألسنا مندمجين وجودياً بالطبيعة وبالكائنات عبر نظام متين جداً ندركه حين نشعر بأن جذباً سحرياً حصل لنا ولم يغادرنا حتى أودعناه في مكوناته، مما يجعلنا نتساءل عن معنى وجودنا ومكاننا في هذا العالم، تماما كما أحدثته تلك الوحشة في تلك الجبال والغابات والأودية. فكشفت لنا عن عالمنا الخاص الذي نحلم به، وبِما يحتويه من ماديات ومشاعر وآمال ومصائر متقاطعة بعوالم أخرى.. السائح، العابر، الغريب وحتى ابن القرية نفسها هو ذاته من نال من حب الجنوب فحمل بداخله بستانًا يبكيه حين ودعه. فراح يأكل قشرة الخوخ والغبار والسكر والبذر والماء، لدرجة أنه أمسك بظل ذلك المكان الذي حين استدار عليه اكتفى بابتسامة حزين مودِّع. هل يدرك ما فعله ذلك الغريب بحبات الرمان وهي تئنُّ على سور بيته وحيدة خارج نافذته الصغيرة، واحدة تلو أخرى تسقط، وقد تركت أوراقها مبعثرة على العشب. أعرف بأنه ليس بوسعك رؤيتها، ولكنك تسمع تقصّف الفروع، وارتطامها بالأرض بعد أن غادرت. أثناء لحظات الصمت المديدة كان ينظر "محمد" إليها ويسأل عن الثمرات المكدومة، وعن رعب الهواء، وهو يفكر بالذهاب غداً للبحث عنك أيها الغريب! يداك غارقة بالندى، وتبقي عينيك مغمضتين، مثل جبل لم يعد يعانق ضبابه أحد فازداد يتمًا وهو يمزق فؤاده على قمته وتلاله، أو قل مثل عزلة تنتظر طرق بابها، لكن المسافة تمزقت بعد رحيل كل أولئك المسافرين. وبقيت لحظة واحدة تتفكر في فرحٍ يلغي ذلك الحزن. وبصوت خفيض تراقب غروب الشمس وأنت تغني، تختفي شيئًا فشيئًا حتى تنهال حكايات لها النبع ذاته. المياه صافية وتصلح للشعر والمواويل، وغدا تنهض الشمس وتقبِّل يدك اليمنى. وكطفل صغير تمنحنا الجبال شيئًا لنحتفظ به. ذلك سر الله الذي أودعه في صخور ترى وتسمع وتحلم وتفكر مثلنا.. بعد كل هذه الوحشة، أوصيك يا محمد أن تذهب إلى الحقول، فتغني للأشجار وللعصافير المختبئة بين أكواز الذرة. أنت يا ابن القمح والشعير، لا تنس بأن السماء صديقة لك، وبأنَّ عيونكم تضيءُ في الظلام. فلا تنسوا في الخلف فم الأرض وبذوركم الدافئة. أعرف بأنكم أصحاب الأرض، وبأنكم ستلوحون بأيديكم. تلقون تحية الوداع وبنظرة خجولة ستقول وداعًا. يداك غارقة بالندى وعيناك مغمضتان تفكر في وحشة الرغيف في التنور وفي ورق اللوز الذي حملته الريح فتطلب الزهرة ألا تستعجل كي لا تجف فتموت ومن الريح أن تسأل الجبال: هل صليتِ للغريب أن يعود؟