كان جدّي غالباً ما يتكلم، وقد أغمض عينيه. يتمدّد على طرّاحته المعهودة، يسند ظهره بمسندين، يضع رجلاً فوق رجل، ويبدأ بالكلام مغمضاً عينيه. سألته عن ذلك: قال: هكذا أرى أكثر. وكان طاحونة كلام. يبدأ بالصلوات والأوراد في الفجر الباكر، ولا ينتهي النهار إلا ويكون ضخّ في منزلنا الكائن على كتف نهر الزهراني في قرية عربصاليم من الجنوب اللبناني، ما يعادل تدفقات المياه الهادرة في أسفل الوادي، وكان في فم الوادي على النهر طاحونة تتحرك رحاها بقوة دفع المياه... فكان يُخيَّلُ إليّ وأنا في أيام الصبا، عائشاً في كنف الجدّ، أنني أعيش بين طاحونتين: واحدة في الأعلى وثانية في الأسفل. الأيام العميقة التي قضيتها في كنف الجدّ، تتجاوب في رأسي وفي مكان ما بين الحنجرة والقلب، مثل خفق أجنحة، وأدعية وتلاوات حزينة، وكربلائيات وأشعار، غالباً ما التقطها سمعي وأشربتها نفسي إشراباً حتى غاصت كمياه الآبار الجوفية... وتتفجّر من اللاوعي في ذكريات غامضة، أو أصداء بعيدة قريبة، أو قبسات الشعر وإشارات الكتابة. فالرحيل مثلاً، وهو غالباً ما يلّح عليّ في الحال والمقال، قد يكون مصدره الخفي من بيتين من الشعر رددهما جدي في مسمعي مرات عديدة، آناء ليل الصبا وأطراف نهاره، وهو يختم السيرة الحسينية بصوته البكائي المرتجف: "بالأمس كانوا هنا واليوم قد رحلوا/ وخلّفوا في سويدا القلبِ نيرانا نذراً عليَّ لئنْ عادوا وإن رجعوا/ لأفرشنَّ طريق الطفّّ ريحانا" حتى حسبت كأنَّ الحياة كلها ليست أكثر من رحيل، وأن الشعر نفسه هو الرحيل. وكنت أصغي إليه وأبكي من الداخل. أقاوم الغصص حتى لا تنبجس دموعي من عينيّ، لكنّ لي عزاءً بالحلوى بعد القراءة. وحين سألته ذات يوم: من هم الذين كانوا هنا ثم رحلوا؟ وهل سيعودون؟ نظر إليّ بعينين فتحهما أكثر مما ينبغي، وهما في العادة مغلقتان، وقال: إنهم هُمْ... وأشار إشارة غامضة نحو الشرق. نافذة الصِبا مفتوحة على صورة قديمة له معلّقة في صدر حائط المنزل. حاجبان كثيفان وعينان كعيني نسر عجوز، ولحية كثّة مستفيضة وفوق الرأس عمامة بيضاء مكوّرة كنصف قمر أبيض. لم تكن لديّ أفكار واضحة عن الحياة والموت والحب والله والحروب والخديعة، وما يحيط بي في عالم القرية من دسائس وخرافات وحياة بدائية، فنشأت في مكان يتقاطع على أرضه الدين بالمعتقدات الشعبية الملامسة للخرافة أو السحر. غالباً ما كان جدي يقول لي، وهو مغمض العينين، كالعادة: صلّوا... صلّوا... لقد ابتعدتم كثيراً عن الصلاة. ولم أكن أفهم لماذا كان يخاطبني بصيغة الجمع، حيث لا يكون سوانا في المجلس، إلا أنني أفترض أنه كان يوجه خطابه إلى جيل، جماعة، أكثر من واحد. ويعتقد أنه ليس ثمة من أمر في هذا العالم، سوى الصلاة. قلت له: والحرب؟ قال: وَهْمٌ... عقولكم خفيفة. ليس ثمة من حرب. قلت له: والذين يموتون هنا وهناك في الشوارع، وعلى الحدود والمعارك؟ قال: وَهْمٌ.. بلاء وابتلاء... بلاء وابتلاء. وكانت تأتي إليه نساء القرية ورجالها وأطفالها، ليكون لهم الطبيب وصاحب الرقية، وكاتم الأسرار. جميع ولادات القرية تمّت بين يديه. وأعراسها عقدت بيديه أيضاً... والموتى الذين غادروا الى ظاهر البلدة، شيّعهم وكفّنهم وأودعهم في التراب. والغنمات الشاردة، أو تلك التي تندّ عن القطيع، فتضيع في شعاب الجبل، كان يعقد عنها لسان الوحش، والمرضى من صغار القرية، يحملهم إليه آباؤهم أو أمهاتهم، فيرقي جبينهم بكلام الله... وهو الآن إذْ ينام نوم التفّاح تحت بلاطة ناتئة في حديقة منزلنا المجاورة، تتناهى منه إليّ أصوات خفيّة، همسات أسفليّة، أدعية، كلمات. وحين أجلس في المنزل القديم، على كتف النهر، وحدي عند المساء، حدّ تقاطع النهار مع الليل، أحسّ تنبعث من زوايا المنزل نداءات قديمة... وينفتح مجرى في الجدار... تحت الصورة، هناك، التي لا تزال معلّقة، وشاخصة. وجاق النار لا يزال مشتعلاً. وجاق كبير تلتمع فيه الأحطاب وهي تتحوّل الى جمرات متّقدة يتطاير منها الشرر، ويستلقي الشيخ امامه كأنه ينام على ايامه، وأنا قربه، وهو يروي لي سِيَراً كثيرة، ويوجه كلامه وكأنه يلقي به الى نار الوجاق، ليزيده اشتعالاً، ويطعّم كل حكاية من حكاياته بأبيات من الشعر. لعله كان لا بد من الشعر من أجل الحكاية... من أجل أن يطلع النهار، ويبقى الجبل قائماً، والنهر يجري، والمحاريث تنطح التراب والصخور، والبحر الذي ينشقّ بالسفن. لكأنّ الكلمات سيف يشقّ الحكاية دائماً نصفين. من هنا كانت الأشعار، ومن هذا الصبا العميق تكوّن حبي للكلمات. كان الرجل عالياً حقاً، طويلاً بطول حورتين من حور الحديقة. وكنت أشعر أني أشبهُ بحصاة ملقاة في ظله. وفي نبرة صوته وحركات يديه ما يشير الى سرير الطفولة. الامر لم يكن حزيناً جداً في تلك الأيام. أي أن أحزان السماء والقرى الجنوبية كان حزناً جميلاً: القرويون الفقراء والدموع والآنية والسوق، والليل والساحرات، ونوال أوّل وجه مدوّر أحببته... كل ذلك ينساب الآن أمام عيني كشريط من نقاط سوداء معلّق على حبل ذاكرة مرتجفة، كشريط من سنونو معلّق على سلك في طريق القرية. غالباً ما كنت أقف أمام هذا الشريط الأسود وأتأمّل. أتأمّل أيضاً هروب الغيوم على الأفق السائل، وأشكالها وتماثيلها العجيبة. وحين يرتفع صوت بالغناء من الحقل المجاور، كنت غالباً ما أقف لأُصغي. المياه التي كنا نحملها الى القرية من أسفل الوادي، من النهر، تصطبغ اليوم بوشاح من دماء القتلى ماتوا بالقصف المروّع. لكن أحزان السماء لا تزال جميلة. والأرض الآن المطويّة أمامي مثل منديل، ليست أكثر من بقعة أو هوّة رمادية هي الوادي بين جبلين، أحدهما الريحان، والآخر الجبل الرفيع. ومنزلنا على كتفٍ ما قائم بين بين... بين هذا وذاك، حيث لا تزال الورود تطلع، وتتسمّى بأسمائها، ولا يزال الشوك يدمي فم الذي يقبّل الوردة، فيسيل دمه على الإبرة. أذكرُ كان ينتاب الناسَ خوفٌ غامض، بين موسمٍ وآخر، بين صباحٍ ومساء، بين فصل وآخر. وأذكر كان في القرية ما يشبه الإحساس بأن القمح مهدد، والنهر مهدد، والحقول آيلة الى الاشتعال. وكان الشيخ بينهم علامةً وسيداً ووتداً من أوتاد القرية. تحلّقوا حوله، أولاً، ثم تحلّقوا حول منازلهم في ما بعد... حين جاءت اسرائيل. السلام الآن يرفرف على روحه وعلى القرية كطائر جريح. كطائر من الدخان. ولا أزال أذكر ما طوته الرياح من طاحونة كلماته، قال لي: يا محمد. ما تبصره عينُك في ظلمة الغيب أبهى من وضوح الشهادة. وما تسمعه أذنك من الصمت أجمل مما تسمعه من اللسان. سيكون من الصعب إزاحة خصل الذكريات عن جبين الصبي. حيث تشكّلت بذور وأوائل الأشياء والأشعار. أول الحب، أول الثورة، أول الخديعة وأول الخيبات. طاحونة الجد التي طحنت عظام الحكمة والأشعار. انتقلت من هناك الى هنا... الى العصب الكائن في قاع الصدر. لكن، للصبا حديث طاحونة أخرى سأرويها لكم.. فاتبعوني. هي الطاحونة الكائنة في أسفل الوادي على النهر. لقد ربينا على ضفة الزهراني كضفادع سعيدة. دقيقتان فقط من المنزل نزولاً، ونكون في الماء. وقد ولدنا معاً أنا وهي، وربينا معاً بين أعلى النهر وأسفله، وأصغينا معاً الى صوت الطواحين وهي تجرش المياه والحبوب والهواء. لقد هدأت تلك الطواحين الآن. جرفتها سيول كبيرة من حجارة ومياه ومن قذائف. لكنْ: انتبهوا... لحظةً واحدة وتعود الى الدوران. لستُ الآن وحيداً، على رغم أننا سعينا الى بعضنا مثلما تسعى ضفتان الى بعضهما البعض. أنا وهي. هل التقينا حقاً؟ هل النهر يجمع الضفتين أم يفرقهما؟ وكنت دائماً في الصبا أنادي عليها من جوارنا وتوافيني الى الوادي فننزل معاً الى النهر، ونجلس واضعين أقدامنا في المياه، وعلى الصخرة، نتأمل أشجار الجوز والحور وهي توشوش فوق رأسينا، ونصغي للطواحين. كان النهر مدرجاً لهبوط روحينا عليه كل يوم... كل أيام الصيف، والخريف وبعض الشتاء والربيع. وها أنا الآن أنظر الى مقعدين على النهر يقتربان، وكنا إذ ذاك صبيين أنا وهي نفترش الحصى، ويترقرق الماء اللطيف على أقدامنا... وحين أحسست بأن البرد مسّ قدميها، أشعلت من أجلها جسدي، بل نار قلبي، وقلت لها اقتربي فهذه النار لكِ... آه، ما كان أجمل ذاك الموقد الذي كنّا فيه في قرار الوادي، يصعد منه دخان أبيض، وكانت ناره موقَدَةً من أحطاب كثيرة ومن كلمات.. وكانت النار أحياناً تصل الى حدود الماء... وثمة حورتان قائمتان لا تزالان حتى اليوم تشهدان على هذا الحب الذي كان... هذا الحب الأول، حبّ الصبا، هو حبّ نهري. لا يزال، على ما أعتقد، فوق حجارة المكان، والوادي، وصخور النهر رذاذ من أجسادنا، وفي الهواء رذاذ الكلمات. الطاحونة التي كانت شاهدة على هذا الحب، وسكتت وجرفها الزمان، ستنهض، ستقوم، ستعود شاهدةً ثانيةً، وسوف تبوح بالأسرار. انتظروا. ليس سوى لحظة وتدور الطاحونة. سوف تقول ما لا يقال. تقولُ: مرّ خمسون عاماً أو أقلّ على ما جرى... مرّ دهر من الغَمْغمات، وبين أن تكوني قريبة مني كالمياه وبعيدةً عنّي كالنبع الغائر، نعيش/ أم نموت؟ هذه الحياة... ونفتّش عن جسدينا بل عن روحينا في صخور الجبال. إني الآن يا حبيبتي أدور وأبحث عنك كذئبٍ يفتّش عن طفله، وها إنني أعوي في الرياح الأربع كعواء الذئاب في الليالي الشتائية الجبلية، وأستعيد فراشنا بين صخرتين، ولحافنا بالظلّ، ونشوتنا في قلب الجبل الذي كان فوقنا كغيمة. فتُرى، كم تُرى مرّ من زمان فوقنا؟ وكم أرعدت السماء وكم برقت في تلك الجرود العظيمة؟ كان كل شيء يضطرب حولنا ونحن هادئان في ظل طاحونة المياه... كطفلين أو كغصنين في شجرة، أو كسرّين في قلب الجبل. وها أنا أنادي سرب الحجل الذي يمرّ بجانبي أقول له: يا أخي الحجل... يا شبيهي في الخوف، كلما أظلم الوعر وعادت الأشياء الى ظلالها، هل تعيد لي هذا الذي... كان؟ الصدى مخيف. لا بد من أن تعود الطاحونة الى الهدير والمياه الى الولوج فيها. وها نحن، بعد أن بعدنا عن النهر، وتشتتنا في الأرض كأيتام ومشردين تنبح بها الكلاب، نلوذ بالنهر ليكون لنا أباً، نحن الذين تعبنا من الرحيل ومن الدوران في الأرض، تضيق بنا الأرض وننزل الآن الى الوادي، الى الحجر إياه، الى الماء إياه، الى المقعد القديم، ونمد أقدامنا الى المياه لكي نغسل الزمان عليها. ستدور الطاحونة التي دارت من خمسين عاماً بنا وفينا... ويهدر فحل المياه العظيم، ويحمل حمار الزمان الرحى ويدور بها، والهدير يعلو أعلى من النهر والوادي، فتدور معه الحياة من جديد. تموج القرية كما كانت بالأغنيات. يعلو القمح. تعلو الورود. ويصعد من جوف الوادي أنا وأنتِ... كما من خمسين من الأعوام. شاعر لبناني