من المؤلم جداً أن تطفو على سطح العلم كالجثة المعرفية منتفخاً بالهراء، ويتم النظر إليك كشهيد علم بينما أنت مجرد نوع من الرخويات التي لفظها البحر على شاطئ الإعلام وقاعة الدرس. إن اليقين - كما يقول (كارل بوبر) فيلسوف العلم وصاحب منهج النقض والتكذيب في النظرية العلمية - هو أننا لسنا على يقين، وكل محاولاتنا للبحث عن المعرفة والوصول إلى الحقيقة - ويقصد بذلك العلوم الإنسانية - هي أشبه بمحاولة رجل أسمر البشرة يقبع في غرفة مظلمة؛ ليبحث عن قبعة سوداء!! فكل الاتجاهات احتمال وكل الخطوات احتمال، وليس هناك حقيقة أؤمن بها تماماً سوى أنني راحل عن هذه الدنيا. لقد سبقه الفيلسوف سقراط بقرون عديدة حين قال: «إنني أعرف شيئاً واحد، وهو أنني لا أعرف شيئاً»، وبالمقارنة بين فحوى ما تناوله بوبر وما تناوله سقراط، نجد أنهما يواريان خلف عباراتهما عمقاً معرفياً، ونضجاً فكرياً ينعكس على سلوكهما في التعبير عن الموقف العلمي نحو المعرفة التي من خلالها نصل إلى الحقيقة لتتأصل فكرة العلم. إن مثل هذا الطرح لا يعني أنهما وصلا إلى طريق مسدودة، ولكنهما يؤمنان لا محالة بضرورة العلم والبحث، ولكن التواضع والنضج والعمق تصل بأصحابها لنقطة يشعرون من خلالها بحجم الأمانة وتعقد مسؤولياتها، وتحفيز السعي الدؤوب للبحث. وبناء على فكرة اللايقين والسعي الدؤوب والبحث لا تنفك تطل فلسفة هيغل بجدليتها، وصيرورتها التي يشكل مسار التاريخ وعاء لها، لنستحضر منها جدلية الصراع الطبيعي الذي خلده كارل ماركس في طبقيته الاقتصادية آنذاك، وسأحاول إسقاط هذا الصراع على ما تناوله البروفيسور محمد الصبيحي في إحدى أطروحاته العلمية المرئية القصيرة فيما يتعلق بالنقاش العلمي حول فكرة ما من أجل الوصول والارتقاء لنقطة غنية بالتكامل الفكري بين أطراف النقاش كما يفترض هيغل، لقد طرح الصبيحي فكرة (الشخصنة) والتمسك بالرأي من خلال التركيز النقدي والبحث عن الأخطاء إن وجدت من أجل إقصاء الجانب الآخر، وأضاف في نهاية طرحه حلولاً علمية ترتكز على الإنصات وتشرب فكرة الأطراف لبعضها البعض، ومن ثم التريث لبضع ثوانٍ، ليتسنى الرد، بافتراض مفاده تقديم المصلحة العلمية على الموقف ذاته. ولكن ما يحدث للأسف هو العكس. إن محاولتي لمزاوجة ما طرحته الشخصيات السابقة ليس محض وهم، بل نقداً للواقع الذي نشاهده في ميدان العلم والمعرفة في عالمنا العربي!! ولكنني أريد أن أضيف نقطة في غاية الأهمية وليس لدي شك بأن البروفيسور الصبيحي يدركها حتى وإن لم يذكرها، وهي التأصيل العلمي الصحيح الذي من باب المنطق العقلي، وحس البداهة أن يكون حاضراً لدى جميع الأطراف التي تناقش فكرة ما. إنني أفترض أنه إذا انتفى هذا الشرط لأحد المناقشين فإن العملية الحوارية برمتها باطلة. لأن الاختلاف لدى الأطراف المبني على تأصيل علمي هو أشبه بالهارموني الموسيقي للجملة اللحنية (الفكرة). وعليه فإن المتابع للمشهد يريد ما يثيره ويثريه معرفياً، وليس ما يثير حماسة التعصب لديه لتصبح أسلوباً ينتهجه كغالب ومغلوب. إن الصراع يعتمد في أحد جوانبه كما يتفق الكثير من الباحثين على أنه طبيعة حتمية وإيجابية إذا تم استغلالها للوصول لطرح تكاملي يتجسد في رؤية ثالثة تخدم رؤية كل طرف. فالعلم ساحة تجاذب وتراكم الأفكار، وليس ميدان معارك وشخصنة وإقصاء للآخر، ومن يحاول أن يعيش على القشور ولا يبحث في الأصول العلمية ليمتلئ باليقين، فهو ليس على يقين كامل كما يرى بوبر، سيجد نفسه كالجثة المعرفية!! ومن لديه العمق فهو أشبه بالدر، والدر كامن وثمين كما يقول أسطورتنا المتنبي.